أنواع الواقع والحقيقة ونظريات عدم الاكتمال
كُتبت في 15/11/2021
منذ بداية الثورة الفكرية كان الإنسان عدوًا لما يجهل، فالجهل كان بمثابة ضعفٍ وخطر، ومصدرًا للقلق النفسي وعقبةً أمام راحة البال والاستكانة، فابتكر الإنسان العديد من الطرق لمواجهة الجهل، منها ما كان طويل الأمد يعتمد البحث والتحليل والتمحيص وإيجاد الجواب ومنها ما يعتمد على القبول بأي جواب لسد ثغرات الجهل؛ ونَجَم عن هذه الطرق العديد من الأساليب الفكرية منها ما كان مفيدًا ولا زالت فائدته مستمرة كالتفكير التحليلي والنقدي، ومنها ما كان مفيدًا ولكن بعد زوال الحاجة له بتغير الظروف أصبح ضارًا وأورث البشر الكثير من الانحيازات المعرفية الخاطئة كانحياز كشف العامل والتفسير الغائي وغيرها من انحيازات ومغالطات منطقية؛ وعندما تطورت آليات التفكير البشرية حاولوا تفسير العالم المحيط بهم وفهمه كي يسهل عليهم التأقلم معه واستخدام هذا الفهم لتحقيق حاجتهم الغريزية في النجاة والبقاء، ولكنهم اصطدموا بمعضلة كبيرة وهي أنهم لا يستطيعون التأكد من ماهية الأشياء المحيطة بهم وهل هي فعلًا كما تظهر لهم، وهنا تفرّع وصفهم لهذا المحيط إلى عدة طبقاتٍ ودرجات فنشأ لدينا: الواقع Reality بأنواعه، والحقيقة بشقيها Fact وTruth بأنواعهم، ونشأت العديد من المدارس الفلسفية التي ترى كل ما سبق من منظورٍ مختلف...
قد يتسآءل البعض عن سبب عدم قدرتنا على الجزم بماهية وحقيقة الواقع المحيط، والجواب هو أنه لا يمكن الحكم على حقيقة منظومة ما من داخلها، فلنفترض أنك تعيش في حوض سمك ضخم جدًا وكيفما تلفتت ستجد ماءً وكائنات مائية في هذه الحالة لن تتمكن من معرفة حقيقة حوض السمك وأنه جزء من شيء أكبر لا يحوي بالضرورة ماء وكائنات مائية ما لم تخرج منه أو يأتيك شيء من خارجه أو تظهر دراساتك المعتمدة أساسًا على استقراء الوسط المحيط بك أنه لا بد وأن يكون هنالك شيء خارجي مختلف كي يتحقق التوازن في الوسط المحيط، وهذا ما حدث مع الإنسان بالفعل عندما كان يظن أن الحقيقة هي كون الكون كله عبارة عن أرضه المحاطة بقبة سماوية وبعض الأجرام السماوية التي تزينها كالنجوم وشمس وقمر أصغر منها يدوران حولها، ولكن عندما بدأ استقراء الظواهر المحيطة تبين له أن هذه "الحقيقة" لا يمكن أن تكون حقيقة لأنها سوف تصطدم مع العديد من الظواهر الأخرى واستنتج تجريبيًا نظرة أصح للواقع والتي تأكد منها عبر خروجه الأولي من منظومة الأرض عبر التيليسكوبات ومن ثم خروجه الفعلي عبر السفر للفضاء، ليجد نفسه أنه خرج خارج منظومة صغير ليقع حبيس منظومة أكبر هي الكون؛ خروجه من منظومة الأرض ساعده على فهمها بشكل أفضل، وعندما جاء لفهم الكون واجه نفس الصعوبات كونه حبيس هذه المنظومة الجديدة ومجبر على دراستها من الداخل، فما كان منه إلى استقراء الداخل تجريبيًا لفهمه ومن ثم مقارنة توازن الظواهر لفهم خارجه أو ما إذا كان هنالك خارج في الأساس؛ فمن استقراء الداخل تجريبيًا تمكن مثلًا من فهم توسع الكون Expansion Theory عبر تباعد أجزاءه لكن دون التأكيد ما إذا كان هذا التوسع هو لأجزاء الكون فقط (في حال كان كون لا نهائي) أو للفقاعة الكونية ذاتها (إن كان محدود) أما محدودية الكون وماذا يمكن أن يكون خارجها فاعتمد استقراء الظواهر ومنطق رياضي ليبني أطر نظرية تشرحها تعتمد مسلمات داخل-كونية كوننا لم نخرج من الكون لداسته من الخارج...
مثال آخر بسيط على عدم قدرة دراسة المنظومة من الداخل هو إدراكنا للأشياء، فقد كنا نعتمد على منظومة جهازنا العصبي لفهم الوسط المحيط عبر استقبال المؤثرات ومن ثم تحليلها وإدراكها فنرى السماء زرقاء والعشب أخضر، ولكننا أدركنا أن حقيقة ما نراه اعتمدت هنا على منظومتنا العصبية بالتالي اختلاف هذه المنظومة سيسبب اختلاف إدراكنا، فالنظر للواقع من خلال منظومة عصبية لبعض الحيوانات التي تمتلك مخاريط بصرية أقل وبالتالي تميز الألوان بشكل أقل كالكلاب سيغير من فهمنا للألوان، وهنا نستطيع أن ندرك أن "الألوان" ليست هي جزء من حقيقة الأشياء بل هي انطباع هذه الأشياء وتفسيرها بواسطة جهازنا العصبي والذي لم يتطور لكي يتخصص في إدراك الأمور على حقيقتها الوجودية (الأنطولوجية) بل لفهمهما بشكل يسهل التأقلم معها ولو لم يكن فهمًا حقيقيًا من ناحية الحقيقة الوجودية (الأنطولوجية)؛ وهنا كان لا بد من الخروج من منظومة جملتنا العصبية لمنظومة أوسع وأكثر حيادية فكان الانتقال من المنظومة الذاتية Subjective إلى المنظومة الموضوعية Objective عبر تحليل المحيط باستخدام أدوات تفسر إشارات الوسط المحيط (المؤثرات) بأسلوب أبسط وأقل جدلية واحتمالية للتفسير الشخصي وهو التفسير بالإشارات البسيطة كالاهتزازات والأرقام والموجات وغيرها فاختلف فهمنا للواقع فاللون لم يعد لونًا نراه بل تحول إلى طيف واسع نعبر عنه بموجات أعطتنا تدرج لوني لم يكن للإنسان حتى تخيله والأصوات أصبحت اهتزازات مما ساعدنا على اكتشاف وجود أمواج صوتية وضوئية واهتزازات لا يمكننا حتى استقبالها كطيف الأشعة فوق البنفسجية Ultraviolet وتحت الحمراء Infrared والأمواج فوق الصوتية Ultrasound وتحت الصوتية Infrasound.
إذًا ما هي أنواع الواقع؟
في الحقيقة قسّم البشر الواقع Reality إلى عدة أقسام انطلاقًا من مسلّمة أن وجودنا نحن هو وجود موضوعي Objective خارج الذهن كوننا نستطيع تمييز وجود واقعين هما واقع ذهني ذاتي Subjective مختلف عن الواقع الخارجي الموضوعي Objective وهنا حصلنا على التقسميات الآتية:
- الواقع الموضوعي (الخارجي/ خارج الذهن) Objective Reality: وهو المعيار العلمي لما هو حقيقي. يصف أي شيء يمكن قياسه وملاحظته ويمكن أن يكون موجودًا حتى لو لم يكن البشر موجودون. كالظواهر الطبيعية والقوانين الفيزيائية، والأشياء المادية.
- الواقع الذاتي (الداخلي/ داخل الذهن) Subjective Reality: وهو ما يكون وجوده في الذهن فقط دون تحققه في الخارج، وهو ما تعتقده ومن الممكن للآخرين أن يصدقوا عكسه تمامًا وسيظل الأمر مقبولًا لك لأنه يستمد وجوده من ذهنك. والواقع الذاتي هو مقياس متدرج، أي أن الاعتقاد فيه متدرج بين الناس كونه لا يوجد ما هو شيء خارجي يحسم واقعيته الموضوعية بين الناس. أبسط مثال على ذلك هو المعتقدات الدينية والآراء السياسية.
- الواقع البيني Intersubjective Reality: وهو واقع بين الواقعين السابقين وهو مجموعة فرعية خاصة من الواقع الذاتي، يصف الأشياء الموجودة لأننا نعتقد بشكل جماعي أنها موجودة، لدرجة أننا نعتبرها حقيقة موضوعية تقريبًا، والأمثلة تشمل: المال، والدين كمنظومة، والحكومات، والشهرة والمشاهير، والقوانين.
بالإضافة لأنواع الواقع هذه، فهنالك أنواع أخرى:
- الواقع الوجودي (الأنطولوجي) Ontological Reality: وهو واقع حقيقة الأشياء الموجودة كما هي everything that is, as it is بعيدًا عن قدرتنا على فهمها أو استيعابها أو إدراكها.
- الواقع الفينومونولوجي Phenomenological Reality: هو الواقع الأنطولوجي المدرك عبر حدس وخبرة الفرد، حيث أن الواقع الأنطولوجي لا يدركه هذا الوعي الفردي أو ذاك تمامًا، نظرًا لوجود عدم شفافية جزئية أو كاملة للواقع الأنطولوجي بالنسبة للوعي الإدراكي بل وجود تشويه جزئي أو كامل له بسبب مجموعة معينة من صفات الإدراك الوعي نفسه، ونتيجة لذلك يحدث "تضيق" و"تجزئة" لإدراك الواقع الأنطولوجي من خلال الوعي الإدراكي.
كما نشأ لدينا حديثًا نوعي واقع جديدين هما:
- الواقع الافتراضي Virtual Reality: وهو بيئة تم إنشاؤها إلكترونيًا تخدع الحواس للاعتقاد بأن منتجات الخيال Imaginary products هي حقائق خارجية فيزيائية physical realities موضوعية.
- والواقع المختلط Mixing Reality: هو تكامل العالم الفيزيائي physical world والواقع الافتراضي virtual reality بحيث يمكن استشعار الأشياء الافتراضية في العالم الحقيقي والعكس صحيح.
والذي استدعي العديد من العلماء للتفكير أن هنالك احتمال كوننا نحن في محاكاة Simulation، الفكرة التي ازداد عدد أنصارها كثيرًا، والتي بالرغم من رفض البعض لها دون تقديم دليل ينقضها إلا أنها فكرة موجودة وبقوة وسأفرد لها مقالًا لاحقًا؛ ولمن يحب أن يطلع على رأي علمي حولها وليس مجرد رفض عاطفي يمكنه الإطلاع على هذه المقالات:
تقليديًا، تشمل الفلسفة أربعة مجالات أو تخصصات أساسية على الأقل: المبحث الوجودي، ونظرية المعرفة، والأخلاق، والمنطق. وتم ضم "الظواهر" إلى تلك القائمة؛ والتعريقات الأولية البسيطو:
- المبحث الإبستيمولوجي (نظرية المعرفة) Epistemology: دراسة المعرفة - كيف نعرف how we know.
- المنطق Logic: دراسة المنطق الصحيح - كيفية التفكير how to reason.
- المبحث الوجودي Ontology: هو دراسة الكائنات أو كيانها - ما هو what is.
- الأخلاق Ethics: هي دراسة الصواب والخطأ - كيف يجب أن نتصرف how we should act.
- الفينومونولوجي (الظواهر) Phenomenology: هو دراسة تجربتنا - كيف نختبر how we experience.
فهل نستطيع أن نجزم أننا نعرف ونتيقن حقيقة الواقع كما هو؟
لا أعتقد أن أحدًا يجرؤ على هذا الادعاء إلا إن كان جاهلًا بنظرية وشروط المعرفة والفرق بين مجالات المعرفة والحقيقة، أو لديه إيمان أعمى بما يعتقد، فالقول بمعرفة شيء نعتقده يحتاج بناءً معرفيًا مكونًا من تبرير هذا الاعتقاد Justification عبر تقديم حجة منطقية Logical Argument للإثبات أن هذا الاعتقاد قابل للتصديق، ومن ثم إثبات تحققه الموضوعي Truth عبر تقديم دليل علمي موضوعي عليه Scientific Evidence؛ وهنا نعود للوقوع في معضلة عدم القدرة على الخروج من المنظومة؛ فالدليل العلمي يُقدَّم عبر المنظومة العلمية التي تستمد صحتها من كونها منطقية فكل ما هو علمي منطقي وتزيد على المنطق بعدة شروط أخرى أهمها الموضوعية (والتجريبية بالنسبة للعلوم الطبيعية على الأخص) وهذا ما يعطيها ميزة الإثبات الموضوعي؛ أما منظومة المنطق فليس هنالك منظومة عملية تحكمها من خارجها، فلا يوجد ما يحتويها إلا الواقع الذي نحن في الأساس نحاول فهمه! وأي شيء آخر قد ينطلق منه المنطق هو شيء ذاتي يعتمد على إمكانية تصديقنا للشيء وموافقته لما نسميه الفهم العقلي السليم الذي هو في الأساس ذاتي Subjective نابع عن فهمنا للواقع، فكيف سنتجرأ على ادعاء أننا نفهم حقيقة الواقع الموضوعي Objective عبر منظومتنا الذاتية Subjective والتي بنيناها أساسًا على الواقع الموضوعي، وبعد أن تبين لنا أنها ليست دقيقة، وما الفائدة من كل هذه العملية إن كنا سنعود لنقطة البداية؟
وبما أن الهدف الأساسي من فهم الواقع هو التأقلم والاستمرار، فلا يمكن للإنسان الاستسلام لمعضلة التفسير والإثبات من داخل المنظومة، فحاول اللف عليها عبر التسليم بعبارات من داخل كل منظومة هي من البساطة والوضوح لدرجة أنه يتقبلها كل البشر ويستطيعون القول للضرورة أنها لا تحتاج برهنة (على الرغم من أن كون الشيء لا يحتاج برهنة لا يعني أننا نستطيع الجزم بحقيقيته من الناحية الأنطولوجية ولو أن هنالك ميل أرسطي لتحققه أنطولوجيًا ولكنه في كل الأحوال مقبول موضوعيًا) ومن هنا نشأ لدينا مفهومي Axiom (التي تُعرّب إلى بديهية) وPostulate (التي تُعرّب إلى مسلّمة) وظهر لدينا ما يسمى النظريات الأكسيوماتية عن الحقيقة Axiomatic Theories of Truth والتي قد يسميها البعض بالنظريات "البديهية" للحقيقة؛ وهنا الفرق بين البديهية والمسلّمة لا يأتي من كونهما أمرًا حقيقيًا من الناحية الوجودية (الأنطولوجية) بالضرورة بل لكون البديهيات Axiom قضايا واضحة لنا (والمشكلة في كلمة لنا التي تعني أنها خاضعة لإدراكنا) ولا تحتاج إلى برهان وهى تستخدم كدليل لغيرها، وتعتبر من أبسط القضايا وأشدّها وضوحاً ويقوم عليها بناء العقل وبنيانه كأن نقول بعدم اجتماع النقيضين (وهنا وضوحها بالنسبة لنا ولعقلنا)؛ بينما المسلّمات Postulate نسلّم بها دون برهان وتتضح صحتها من النتائج وعدم وجود تناقض فيها؛ والمسلّمات Postulate خاصّة، حيث أنه لكلّ علم مسلماته التي لابدّ من فهمها كأن نقول (أي نقطتين يمر بهما مستقيم واحد فقط)، بينما البديهيات Axiom عامة لا تحتاج إلى برهان. أما الفرق من الناحية الرياضية هم حقائق رياضية مقبولة بدون دليل، فهم يوضعون أساسًا لدراسة هندسة أكثر تعقيدًا. Axioms بشكل عام عبارات يتم وضعها حول الأرقام الحقيقية real numbers. في بعض الأحيان يطلق عليهم المسلمات الجبرية (علم الجبر Algebar) Algebraic Postulates، وغالبًا ما يكون ما يقولونه عن الأرقام الحقيقية صحيحًا بالنسبة للأشكال الهندسية، وبما أن الأرقام الحقيقية جزء مهم من الهندسة عندما يتعلق الأمر بقياس الأرقام، فإن الـ Axioms مفيدة جدًا. بينما تكون Postulates أكثر توجهاً نحو الهندسة geometry-oriented، فهي عبارات حول الأشكال الهندسية والعلاقات بين الأشكال الهندسية المختلفة، مثل مسلّمة التوازي parallel postulate. وفي النهاية كلا النوعين هذين يمكن استخدامها عند كتابة برهان رياضي لينتج عنه مبرهنات Theorem.
من الناحية المنطقية الفلسفية فمن بين الـAxioms يوجد لدينا ما يسمى بقوانين الفكر Laws of Thought أو قوانين المنطق Laws of Logic والتي تُعرّب إلى "الضرورات العقلية"؛ حيث عرّف بعض الفلاسفة الأوائل المنطق على أنه علم قوانين الفكر science of the laws of thought، وأن هناك ثلاثة قوانين أساسية للفكر وهي أساسية لدرجة أنه من الضروري، من أجل صنع تفكير صحيح، أن نطيع هذه القوانين. إن صياغة وتوضيح مثل هذه القواعد لها تقليد طويل في تاريخ الفلسفة والمنطق. ومن المتوقع أن يتوافق أي تفكير جيد مع مجموعة المبادئ المنطقية الثلاثة التي تسمى "قوانين الفكر"؛ حيث اعتبروا أن قوانين الفكر هي أساس كافٍ للمنطق، وكل مبادئ المنطق الأخرى هي مجرد صياغة لقوانين الفكر؛ وهذه القوانين الثلاث هي:
- قانون الهوية The Law of Identity
- قانون عدم التناقض The Law of Non-Contradiction
- قانون الثالث المرفوع The Law of Excluded Middle
والآن نعود إلى النظريات الأكسيوماتية عن الحقيقة Axiomatic Theories of Truth، وهي نظرية استنتاجية للحقيقة كمسند بدائي غير محدد. فبسبب مفارقة الكاذب liar paradox (أو ما تسمى مفارقة كريت) والتي تقول [لنفترض أن هناك رجل فيلسوف من جزيرة كريت قال أن كل ما يقوله فلاسفة جزيرة كريت هو كذب؛ فهل كلام الرجل (الذي هو من ضمن منظومة فلاسفة كريت لأنه واحد منهم) كاذب أم صادق؟ فإن قلنا أنه صادق فكونه واحد من فلاسفة كريت يجعل من كلامه كذب كونه لأنه قال عنهم بكلامه الصادق أن كل ما يقولونه كذب وهذا يناقض المقدمة الأولى كونه صادق؛ أما إن قلنا أنه كاذب وأن كل ما يقوله فلاسفة جزيرة كريت هو الصدق، فهو واحد منهم وسنعود للاحتمال الأول وسنقع في حلقة مفرغة] وغيرها من المفارقات الأخرى، لذا كان لا بد من اختيار الأكسيومات والقواعد بعناية لتجنب التضارب؛ وهنا نلاحظ أن اختيار هذه الأكسيومات تم بناءً على قواعد وليس بناءً على حقيقتها الواضحة كما يعتقد البعض فقد تمت مناقشة العديد من أنظمة الأكسيومات الخاصة وتحليل خصائص كل منها. حيث ارتبطت الخصائص المنطقية للنظريات بالعديد من الأسئلة الفلسفية، مثل الأسئلة حول الحالة الأنطولوجية للخصائص، ومبرهنات غودل لعدم الاكتمال، ونظرية الحقيقة الانكماشية truth-theoretic deflationism، وقابلية الإلغاء للمفاهيم الدلالية eliminability of semantic notions ونظرية المعنى theory of meaning.
ومن بين ما سبق نذكر مبرهنات غودل لعدم الاكتمال Gödel's incompleteness theorems التي عبرت عن معضلة التفسير والإثبات من داخل المنظومة، حيث قام عالم الرياضيات "كورت غودل" Kurt Gödel بطرح الموضوع عام 1931، وقبل الخوض في الموضوع دعوني أقدم شرح مبسط..
إذا أردنا أن نفهم عملية البرهنة وكيفية بناء نسق رياضي من مسلّمات، فعلينا أن نعلم أن الرياضيات هي من أبسط لغات التعبير عن الواقع وأقلها جدليةً كونها لا تخضع للحواس كما ذكرت أعلاه عندما تحدثت عن استقبال الإشارات وغيرها، وتُكتب لغة الرياضيات بسلسلة من الرموز لها معنى معين، تسمى هذه الجمل الرياضيّة العبارات، ومنها العبارات الصحيحة مثلًا 1+1=2 والخاطئة مثلًا 1+1=4، ولا تُعرف صحة عبارة ما بشكل عام من عدمها إلا بعد تقديم برهان رياضي يثبتها أو ينفيها؛ وتنطلق البراهين الرياضيّة من مسلّمات، وهي كما ذكرت عبارات رياضيّة نسلم بصحتها دون إثبات لتكون الأساس لأي عبارة رياضيّة أخرى تُستنبَط من هذه المسلمات بواسطة المنطق الرّياضي، وتسمى هذه العملية بالبرهان الرياضي، وتقديم البراهين هو أحد أهم أدوار علماء الرّياضيات.
حتى عام 1931 كان علماء الرّياضيات وعلى رأسهم عالم الرياضيات الألماني "ديفيد هيلبرت" David Hilbert معتقدين أن الرّياضيات علم كامل متكامل، أي بإمكاننا إن انطلقنا من المسلمات المناسبة أن نبني نسقاً غير متناقض كل عبارة فيه قابلة للإثبات، وقد طرح "هيلبرت" السؤال الآتي: "هل يمكننا الجواب بالنفي أو الإثبات من خلال البرهان الرياضيّ على أي عبارة رياضيّة داخل نظريّة رياضيّة ما؟"؛ طبعاً كان "هيلبرت" متفائلاً حتى جاءت المفاجأة التي وضعت حداً لهذا التفاؤل، من قبل العالم النمساوي الشاب "كورت غودل" Kurt Gödel فيما سماه مبرهنات غودل لعدم الاكتمال Gödel's incompleteness theorems.
وتقول هذه المبرهنات (إذا حاولنا أن نبسطها) أن أيّة صياغة لنظرية الأعداد، منبثقة من عدد من المسلمات غير المتناقضة، لا بد أن تكون غير كاملة. حيث تنص مبرهنة عدم الاكتمال الأولى على أنه لا يوجد نظام ثابت من المسلمات يمكن سرد نظرياتها من خلال إجراء فعال (خوارزمية) قادر على إثبات جميع الحقائق المتعلقة بحساب الأعداد الطبيعية. بالنسبة لأي نظام رسمي متسق من هذا القبيل، وستكون هناك دائمًا بيانات حول الأرقام الطبيعية التي تكون صحيحة، ولكنها غير قابلة للإثبات داخل النظام. وتُظهر مبرهنة عدم الاكتمال الثانية، وهي امتداد للأولى، أن النظام لا يمكنه إثبات اتساقه الخاص. وهو يطابق ما تحدثت عنه من معضلة الإثبات والتفسير من داخل المنظومة..
إذًا وبما أننا لا نستطيع أن نعرف الحقيقة الوجودية (الأنطولوجية) للواقع كوننا داخل منظومته إذًا كيف ينظر البشر لتطابق هذه الحقيقة مع الواقع الموضوعي؟
نظرة المدارس الفلسفية لحقيقة الواقع الوجودية (الأنطولوجية) Ontological Reality وهي everything that is, as it is (الطبيعة الحقيقية للأشياء والأحداث) فيمكن تقسيمها إلى:
- الكونية Universalism: الاعتقاد بوجود حقائق يمكن تطبيقها على الكون بأسره وفي كل موقف.
- النسبية Relativism: الاعتقاد بأن الحقيقة ذاتية subjective وفردية individual تمامًا وأن كل فرد له ما يبرره عن وجهة نظرهم للواقع.
- البراغماتية Pragmatism: هي وجهة النظر القائلة بأنه لا يهم ما إذا كان شيء ما صحيحًا حقيقةً طالما أنه صحيح لجميع الأغراض العملية المرجوة. يرى البراغماتيون أيضًا أن الواقع الذاتي لا معنى له ما لم يكن لديه نوع من التطبيق العملي.
- المادية Materialism: الاعتقاد بأن كل الأشياء بما في ذلك المعقدة غير الملموسة (كالخيال مثلًا) لها أساس مادي.
- المثالية Idealism: هي الاعتقاد بأن كل الأشياء أو بعض الأشياء غير مادية بحيث لا يكون لها شكل مادي.
- الواقعية Realism: هي الاعتقاد أن الواقع يختلف غالبًا عن إدراكنا لأن الواقع يتشكل من خلال أفكارنا وعواطفنا وحواسنا وخصائصنا المعرفية. على سبيل المثال، إدراك اللون والذي يختلف اختلافًا كبيرًا عن الخصائص الفيزيائية للضوء.
- الشكوكية Skepticism: هي الشك العام في قدرة البشر على فهم أي شيء عن الواقع بدءًا من سؤال ما إذا كانت حواسنا دقيقة. على سبيل المثال، إمكانية محاكاة كل ما نراه أو تخيله. وقد يشكك في الافتراضات البشرية الأساسية مثل مفهوم الزمان والمكان. الشيء الوحيد الذي يمكن إثباته في ظل الشك هو الوجود نفسه. ويعتمد هذا على التجربة الفكرية "أعتقد ، إذن أنا موجود" حيث يكون فعل التشكيك في الوجود دليلًا على وجودك.
طبعًا لكل مدرسة من هذه المدراس تدرجات وأقسام وأنواع ومنهم من يقول بالواقع المتسامي (المتعالي) Transcendental Reality كما هو الحال عند المدرسة المثالية المتعالية Transcendental idealism. ولكن كما يتضح فجميعها طروح فلسفية لا يمكن الجزم بحقيقتها كوننا لم نخرج خارج المنظومة..
وفي النصف الأول من القرن العشرين، تجلت النظرة التجريبية empiricism في شكل أنواع مختلفة من "الذرائعية instrumentalism" والتي تحمل الرأي القائل بأن النظريات هي مجرد أدوات للتنبؤ بالظواهر التي يمكن ملاحظتها أو تنظيم تقارير المراقبة. ووفقًا لأفضل شكل تقليدي من المذهب الذرائعي، فإن مصطلحات الأشياء غير المرصودة ليس لها معنى في حد ذاتها؛ وبتفسيرها الحرفي، فإن العبارات التي تتضمنهم ليست حتى مرشحة للحقيقة أو الزيف، ولكونها حقيقية أو غير حقيقية.
والذرائعية، في فلسفة العلم، هي الرأي القائل بأن قيمة المفاهيم والنظريات العلمية لا يتم تحديدها من خلال ما إذا كانت صحيحة حرفيًا أو تتوافق مع الواقع بمعنى ما ولكن من خلال المدى الذي تساعد فيه على إجراء تنبؤات تجريبية دقيقة أو حلها لمشاكل مفاهيمية.
وبعد الانتهاء من ذكر بعض أنواع الواقع Reality لا بد من ذكر أنه حتى لو تغاضينا عن فهم الواقع ككل، فحتى نقلنا للواقع ليس مؤكد لذا كان لدينا مسميات مثل Fact وTruth والتي نستخدمها للتعبير عن حقيقة الأشياء والظواهر..
والفرق بين Fact وTruth هو أن الحقيقة Fact هي شيء موجود في شكل حقيقي موضوعي (وهنا لا نتكلم عن الحقيقة الأنطولوجية)، بينما الحقيقة Truth هي الحالة الحقيقية true state لشيء معين أو مسألة مثل كشخص أو مكان أو حيوان أو شيء. ويمكن القول أن الحقائق Facts هي أشياء يمكن ملاحظتها ويمكن التحقق منها بشكل صحيح (ويمكن الإطلاع على المنهجية العلمية للتحقق ووصف الحقائق Facts حيث أن مسمى الحقيقة العلمية Scientific Fact يطلق على الظاهرة المرصودة والتي يقدم العلم وصفًا لها بما يسمى النظرية العلمية Scientific Theory).
إذا تحدثنا عن كلمة حقيقة Fact ومعناها، فيمكن فهمها ببساطة من خلال جملة مثل "النار ساخنة". إنها تستند إلى شيء واقعي ومُختبَر. كما لو حاولت أن تلمس النار، يمكن أن تصاب بحروق، وستشعر بالحرارة بالطبع. أي أنه لا يقتصر الأمر على ما تراه، بل يمكن ملاحظته تجريبياً أو عن طريق الاستشعار.
من ناحية أخرى، يمكن القول أن الحقيقة Truth هي حالة حقيقية لمسألة ما، في ما يعتقده الشخص في وقت لاحق. الحقيقة Truth ليست كونية عامة universal في الطبيعة. بل هي موقف ذاتي بدرجة أكبر، وهذا يعتمد على القضايا الحالية، أي أنها ليست عنصرًا واقعيًا أو عنصرًا تجريبيًا.
ويمكن تقسيم الحقيقة إلى أربع أنواع:
- الحقيقة الموضوعية Objective Truth: هي ما يوجد ويمكن إثباته في العالم الفيزيائي (الشمس تتحرك في السماء كل يوم).
- الحقيقة الذاتية Subjective Truth: هي كيف يرى الفرد العالم أو يختبره (اليوم هو يوم جيد بالنسبة لي).
- الحقيقة المعيارية Normative Truth: هي ما نتفق عليه، كمجموعة، على أنها صحيحة. (وافق المتحدثون على استخدام كلمة "يوم" لتسمية ذلك الوقت عندما تضاء السماء بالشمس). كما أنها حقيقة القيم التي يُفترض أنها لا يمكن تحديدها ببساطة عن طريق وجود الأشياء أو عدم وجودها أو بالمنطق وحده دون الرجوع إلى شيء آخر (مثل الإرادة البشرية أو المثل الموضوعية) وتسمى أيضًا الحقيقة الجمالية، والحقيقة الأخلاقية، والحقيقة المثالية.
- الحقيقة المعقدة Complex Truth: تقول بصحة كل هذه الحقائق وتسمح بالتركيز على الحقيقة الأكثر فائدة في أي وقت. (شروق الشمس، واليوم مشرق. اليوم هو يوم جيد، لذلك دعونا نستفيد من ذلك ونطلب الآيس كريم).
أما من نظريات تفسير الحقيقة Truth فلدينا العديد، أذكر منها:
- النظريات الأكسيوماتية (البديهية) للحقيقة Axiomatic Theories of Truth: والتي ذكرتها أعلاه.
- النظرية الدلالية للحقيقة semantic theory of truth: أو نظرية تارسكي عن الحقيقة Tarski’s theory of truth وهي نظرية الحقيقة في فلسفة اللغة التي ترى أن الحقيقة هي خاصية للجمل المستخدمة في صياغتها. وتنطلق من مبادئ عدة هي:
(أ) الحقيقة كخاصية للجمل؛ (ب) العلاقات بين الحقيقة والمعنى؛ (ج) تشخيص المفارقات الدلالية؛ (د) حل المفارقات الدلالية؛ (هـ) نسبية اللغات؛ (و) مخطط T (A يكون صحيحًا إذا وفقط إذا كان A)؛ (ز) مبدأ ثنائية التكافؤ؛ (ح) الملاءمة المادية والشكلية لتعريف الحقيقة؛ (ط) الشروط المفروضة على لغة ما من أجل الحصول على تعريف صحيح للحقيقة ؛ (ي) العلاقة بين اللغة واللغة المعدنية metalanguage (وهي شكل من أشكال اللغة أو مجموعة المصطلحات المستخدمة لوصف أو تحليل لغة أخرى)؛ (ك) تعريف الحقيقة نفسه؛ (ل) أقصى مجموعة من الحقائق في لغة معينة؛ (م) نظرية عدم القابلية للتعريف.
- نظرية التكرار عن الحقيقة Redundancy theory of truth: وفقًا لنظرية التكرار عن الحقيقة (المعروفة أيضًا باسم نظرية الاستبعاد للحقيقة disquotational theory of truth)، فإن التأكيد على أن العبارة صحيحة يكافئ تمامًا تأكيد العبارة نفسها. على سبيل المثال، تأكيد أن جملة "الثلج أبيض" صحيحة يعادل تأكيد الجملة بالقول أنه "صحيح أن الثلج أبيض". ومن الناحية الفلسفية هي نظرية انكماشية للحقيقة deflationary theory of truth، والتي تقول بأن التأكيدات التي تضاف لعبارة يكون فيها مُسند الحقيقة، لا ينسب بالضرورة خاصية تُدعى الحقيقة إلى مثل هذه العبارة، أي أن القول أن المُسند "هو حقيقي" لا يحمل أية معلومة إضافية تزيد عن العبارة التي يُنسب إليها؛ فعبارة "صحيح أن الملك مات" تحمل ببساطة معنى "مات الملك" وعبارة "من الخطأ أن الملك مات" تحمل ببساطة معنى "لم يمت الملك".
- نظرية مطابقة الحقيقة Correspondence theory of truth: تنص على أن حقيقة أو زيف بيان ما يتم تحديده فقط من خلال كيفية تطابقة وارتباطه بالعالم وما إذا كان يصف بدقة (أي يتوافق مع) هذا العالم. وتدعي أن المعتقدات الحقيقية والبيانات الحقيقية يجب أن تتوافق مع الحالة الفعلية للأمور. يحاول هذا النوع من النظريات فرض علاقة بين الأفكار أو العبارات من جهة والأشياء أو الحقائق من جهة أخرى.
- الحقيقة المجازية Metaphorical Truth: غالبًا ما يتم تعريف الحقيقة المجازية على أنها آلية وتقنية تصويرية تستخدم لنقل معاني معقدة متعددة أو طبقات تتجاوز التفسيرات الحرفية للتوضيح. وتقول أنه ليس الهدف التأسيسي للاستعارة metaphor نقل الحقيقة أكثر مما هو للفهم الأدبي لها. لكن في سياقات معينة، وبشكل عرضي، يمكن أن تؤدي الكلمات المجازية إلى حقائق - ويقصد منها فعل ذلك - تمامًا كما يمكن للألفاظ الخيالية والأعمال الأدبية. وتقول بأن نوع النهج المقترح للكلام التخيلي يمكن تطبيقه بشكل مثمر أيضًا على النطق المجازي، مع ما يترتب على ذلك من آثار مماثلة لتقييم الحقيقة.
مما سبق نجد أن حقيقة الواقع وتعريف الحقيقة بحد ذاته هو ليس بالأمر البسيط كما يعتقد البعض إما لقلة الإطلاع أو دفاعًا عاطفيًا عن معتقداتهم، وأننا من غير الممكن الجزم بحقيقة الواقع والوجود؛ والدرس الأهم من كل ما سبق أن لا أحد منا يملك الحقيقة المطلقة (إن كان هنالك ما يسمى بالحقيقة المطلقة) ومن يدعي ملكيته فعليه كسر معضلة البرهان من داخل المنظومة وتقديم دليل على كلامه.
بعض المصادر:
- Truth: https://plato.stanford.edu/entries/truth/
- Axiomatic Theories of Truth: https://plato.stanford.edu/entries/truth-axiomatic/
- Truth, Fiction, and Literature: A Philosophical Perspective: https://oxford.universitypressscholarship.com/view/10.1093/acprof:oso/9780198236818.001.0001/acprof-9780198236818
- Gödel’s Incompleteness Theorems: https://plato.stanford.edu/entries/goedel-incompleteness/
- Are We Living in a Computer Simulation? https://academic.oup.com/pq/article-abstract/53/211/243/1610975?redirectedFrom=fulltext
- Do We Live in a Simulation? Chances Are about 50–50 https://www.scientificamerican.com/article/do-we-live-in-a-simulation-chances-are-about-50-50/
- Confirmed! We Live in a Simulation https://www.scientificamerican.com/article/confirmed-we-live-in-a-simulation/
- Scientific Realism: https://plato.stanford.edu/entries/scientific-realism/
- Phenomenology: https://plato.stanford.edu/entries/phenomenology/#PhenOntoEpisLogiEthi
- Logic and Ontology: https://plato.stanford.edu/entries/logic-ontology/
كنز
ReplyDelete