الميل لفكرة وجود قوة عاقلة، هل لأننا أحفاد الجبناء والحذرين؟ انحياز كشف العامل Agent Detection Bias
حُدّثت في: 08/09/2021
أحد أسباب إيماننا بوجود عامل فاعل غائي وراء ظاهرة ما هو أننا أحفاد الجبناء والحذرين، فالشجعان والفضوليون انقرضوا منذ زمنٍ بعيد...
كثيرًا وفي أغلب، إن لم يكن في كل، النقاشات الفلسفية حول بداية الكون أو الوجود نجد الحجة السببية أو ما يسمى بالحجة الكونية Cosmological Argument تتصدر النقاش، ويتم فيها إرجاع كل شيء سببيًا إلى سبب يسبقه بادعاء أن السببية ضرورة عقلية استنباطية لا استقرائية مما يوقع عادةً بمعضلة التسلسل اللانهائي Infinite Regress والذي وللغرابة يحلونه بكسر هذه السببية التي سبق وادعوا أنها ضرورة عقلية واستنباطية لا استقرائية عبر ما يسمى بواجب الوجود المشتق من فكرة أرسطو حول المحرك الأول الذي لا محرك له Unmoved Prime Mover؛ وعلى الرغم من كم الأخطاء والعوار الكبيرة في هذا الطرح الذي يناقض نفسه (والذي تحدثت عن البعض منه في مقال سابق) فمقال اليوم ليس حول الحجة السببية/الكونية، بل حول توءمها المرافق دومًا وهو كون أنه في حال وجود سبب أول أزلي فلا بد أن يكون عاقلًا مخصصًا مريدًا غائيًا وليس مجرد قوة طبيعية عادية بحجة أنه مرجح أي يرجع ممكن الوجود بين الوجود والعدم!
بغض النظر عن أن هذه الفكرة تعتمد على أفكار فلسفية أكل الدهر عليها وشرب حرفيًا وغير مدعومة بأي فكرة أو طرح علمي بل على اجترار أفكار الإغريق قبل الميلاد ومن بعدهم بعض الفلاسفة والمناطقة والمتكلمة من القرون العاشر والحادي عشر وغيرهم، أي ما قبل عصر الثورة العلمية وقبل أن نفهم ولو واحد على مليون من طبيعة الكون التي نعرفها الآن؛ ولكن موضوعي هو: لماذا هذا الميل البشري لاعتبار أن مسبب الأشياء هو شيء حي متحرك لهدف أو غاية ما؟
في الحقيقة نصل أوكام Occam’s Razor يجعل من افتراض وجود محرك لا مادي عاقل غائي مريد مخصص يؤثر في المادة (سواء يخلقها من عدم أو وجود أزلي) دون ارتباط مباشر بها، ادعاءً خياليًا أبعد ما يكون عن المنطق مقارنة بادعاء أقل تكلفة منطقية من ناحية الافتراضات الزائدة عن الحاجة والذي يقتصر على أزلية أشياء مادية (بغض النظر عن ماهية هذه الأشياء البدائية)، وتخصيص عبثي لا عاقل ولا غائي (وإن كنت لا أتبناه بالمطلق بل أقارنه كافتراض أقل عبء منطقي).. فمن السذاجة الفلسفية والمنطقية أن تعتقد أنك تستطيع أن تفترض افتراضات لا نهائية لتجنب إحراج عبء الإثبات لاحقًا وذلك باستخدام عبارة "من شأنه كذا".. فمن الذي أفهمك أنك تستطيع ببساطة افتراض وجود كائن أزلي ومن شأنه (العقل، الإرادة، القدرة، الغائية، التخصيص، الخلق....إلخ) دون أن تقدم إثبات منطقي على كلٍ منها..
إن افترضنا أن هنالك فعلًا حاجة للترجيح كوننا في كل يوم نكتشف عوالم مختلفة تختلف فيها القوانين الطبيعية الحاكمة والتي نبني منطقنا عليها، ففي الحقيقة يكفي للترجيح حدوث تغير ما ولا يحق لأحد فرض صفات للمرجح دون التدليل عليها.. فلإثبات أنه عاقل يجب التدليل على ذلك، ولإثبات أنه غائي يجب التدليل على ذلك؛ وحقيقةً، فإنك إن كنت تحتاج أن تقطع 1000كم لإثبات وجودة قوة ما وراء وجود الكون فأنت تحتاج أن تقطع مليون كم لتثبت أن هذه القوة عاقلة ومليار كم لتثبت أن هذه القوة سببية هدفية وتريليون كم لتثبت أنها تتواصل مع البشر ومليون سنة ضوئية لتثبت أنها إله أحد الأديان).. وإلا فإن الأدلة على وجود أي إله هو نفس الأدلة على وجود وحش السباغيتي الطائر أو التنين الوردي القاطن في أندروميدا...
وبالرغم من هذا تجد أن استخدام عبارات مثل (بما أنه موجد الكون فلا بد أنه عاقل ولا بد أنه حكيم ولا بد أنه غائي.. إلخ)، بالرغم من أنه حتى الكائن العاقل يمكن أن يفعل شيء دون غاية وقد تحدثت عن هذا مفصلًا في مقال سابق عن التفسير الغائي، ومقال آخر عن الكون ومواصفاته، ومقال عن الكون واحتمالية أن يكون وجود الإنسان هو الهدف منه..
المشكلة بمنهجية التفكير عند أي أحد ينتهج هذه الادعاءات السابقة ليس فقط الاستدلال الدائري Circular Reasoning والتوسل بالجهل Appeal to ignorance وتحويل عبء الإثبات Shifting the burden of proof وكمية الافتراضات الكثيرة التي تسقط بنصل أوكام، بل المشكلة الحقيقية تكمن بشيء أعمق من هذا بكثير وهو الميل الفكري والعقلي لكون العامل المؤثر عاقل أو حي وعدم انتباههم لفكرة أنه ليس من الكافي معرفة وجود سبب ما لحادث ما حتى تحدد صفاته، فالدليل الكافي على وجود عامل ما ليس بالضرورة كافٍ لتحديد صفاته. وأبسط مثال والذي يستخدم كثيرًا هو أن وجود "قلم" على الطاولة يعني أنه لا بد أن إنسان وضعه، وهذا خطأ لأن كون إنسان وضعه هو احتمال من بين احتمالات، فوجود القلم على الطاولة هو (ضمن منظومتنا الأرضية وقوانينا الطبيعية الكونية) دليلٌ كافٍ على وجود سبب وراء وجود القلم على الطاولة، ولكنه ليس كافٍ للقول أن هذا السبب هو إنسان فقد يكون قد نقله طائر عبر النافذة مثلًا وهو احتمال وارد مهما استغربته (خاصة عندما نتحدث "باستدلالات عقلية")، وحتى لو وجدنا دليل أنه إنسان فليس كافٍ بالضرورة لأن نقول أن هذا الإنسان وضعه لهدف أو قصد وحتى لو وجدنا دليل على أنه وضعه لهدف أو قصد فليس كافٍ بالضرورة أن نقول أن هذا الإنسان هو حسن أو طارق أو ابراهيم.. يعني أي أحد سيدعي أن من وضع القلم على الطاولة هو حسن وعندما تسأله عن دليله يقول دليلي هو فقط وجود القلم على الطاولة فببساطة ستعتبره ضحل التفكير...
إذًا، هل يوجد سبب لميل البشر لاعتبار أن ما يقف حول حدث مجهول ما هو على الأرجح قوة حيّة أو عاقلة أو مريدة؟
في الحقيقة الجواب نعم يوجد سبب، وهذا السبب يعود لجذور سلوكية تطورية وهي أننا نحن البشر الحاليين أحفاد وسلالة لأسلافنا من الكائنات الحية الجبانة أو الحذرة.. لن أعود في الزمن للخلف كثيرًا وأتحدث عن أن السلف القديم للثديات وكيف كان يختبئ من الحيوانات المفترسة وهذا الاختباء كان سببًا لنجاته من العوامل الطبيعية اللي قضت على الكائنات الكبيرة بل سأتحدث عنا نحن البشر كنوع. البشر وباقي الحيوانات يشتركون بكثير من آليات السلوك والتفكير، ومنها آلية تحليل وتقييم الأخطارRisk Assessment/Risk Analysis والتي يقوم الكائن الحي عبرها وبعد ملاحظة الخطر بتحليله ومن ثم يقوم بفعل أو رد فعل لتجنب الخطر أو مواجهته.. الاصطفاء الطبيعي ساهم بالإبقاء على الأفراد ذوي ردات الفعل الأسرع لأنهم كانوا الأكثر قدرة على النجاة وورّثوا ردات الفعل هذه لأبناءهم عبر التدريب السلوكي وعبر الجينات (كصفات وراثية مندلية وليس مكتسبة لاماركية فهذه الصفات أساسًا جينية وليست مكتسبة فقط والاصطفاء الطبيعي ساهم بتنقيتها)، ولكن الأمر لم يتوقف عند اصطفاء الأسرع في ردات الفعل بل الأسلم في اتخاذ القرار أيضًا، وهنا مربط فرس مقالنا هذا...
عند تعرض الإنسان والحيوان للخطر وتنبهه له يختلف قراره حسب نوع الخطر، فإذا كان الخطر واضح ومعروف ممكن للكائن الحي وحسب مقارنته لقوته وقدرته مع قوة الخطر وقدرته أن يتخذ قرار إما بالمواجهة أو الهرب.. مثلًا إذا تحرك العشب وانتبه الثعلب للحركة وكان السبب طائرًا ما فالثعلب قد يهاجمه ويفترسه، إما إن كان السبب ضبعًا فالثعلب على الأغلب سيهرب لأن احتمال موته أو تأذيه كبير إن واجهه.. وهنا الاصطفاء الطبيعي سيضمن استمرار الأفراد الأفضل في تقييم الخطر ومقارنة قوته مع قوتهم واتخاذ القرار الصحيح...
هذا الأمر سهل في حال معرفة نوع الخطر، لكن ماذا إن كان الخطر مجهول السبب؟
تخيل معي عزيزي أنك إنسان قديم تمشي في الغابة تلتقط الثمار أو تصطاد شيء ما وفجأة رأيت الشجيرات التي خلفك تتحرك دون أن تعرف السبب، هنا أنت استقبلت الخطر لكن لم تعرف السبب، عندها سيخطر لك الاحتمالات الآتية:
- السبب شيء غير حي: قد يكون الهواء القوي هو ما حرك الشجيرات..
- السبب شيء حي: وهنا أيضًا احتمالان: السبب أضعف منك متل غزال مثلًا (ممكن أن تصطاده وتعيش في بحبوحة من الطعام لمدة أسبوع) أو أقوى منك متل دب بري (إذا واجهته مباشرةً فيوجد احتمال كبير أن يفترسك)..
بناءً على هاد التحليل السريع سيكون عليك تقوم بفعل ما وهنا أمامك أيضًا عدة احتمالات:
- الجبان أو شديد الحذر: أن تقول (وراء الأكمة ما وراءها، والهريبة تلتين المراجل) وتفضل الهروب لأن الخطر الذي لا تعرفه يحتمل أن يكون كائن حي وأقوى منك (وهنا أنت تجاهلت احتمال أن يكون شيء غير حي أو كائن حي أضعف منك)، (احتمال النجاة حوالي 100%)..
- الفضولي: أن تقرر أن تنتظر حتى تعرف السبب، وهنا وبعد أن تعرف السبب سيكون أمامك خياران: إما أن يكون السبب غير حي وتكمل رحلة جمعك للطعام، أو يكوم كائن حي وهنا أيضًا أمامك خياران: إما أن يكون أضعف منك فتصيده للطعام، أو يكون أقوى منك وهنا مجددًا أمامك خياران: إما أن تكون جبان أو شديد الحذر وتحاول تهرب وعندها يمكن أن تنجو ويمكن ألا تنجو، أو تكون شجاع أو متهور وتقرر مواجهته وتنتصر أو تخسر ويفترسك..
بمعنى آخر، إذا كنت جبان أو شديد الحذر فاحتمال نجاتك المضمونة هو 100%؛ بينما إذا كنت فضولي فنجاتك مرتبطة بكثير من العوامل منها (أن يكون الخطر زائف وناتج عن كائن غير حي، أو إذا كان كائنًا حيًا أن تكون قادرًا على الهرب دون مواجهة، وإذا قررت المواجهة أن تكون قادر على هزيمته) وهاد يقلل احتمالات النجاة كثيرًا بالمقارنة مع الحالة الأولى؛ أما إذا كنت شجاع أو متهور وضعيف فانسى راحت عليك...
وبهذا فإن فرصة نجاة الأفراد الأكثر حذرًا والأقل شجاعة كانت أكبر بكثير وبما أن البقاء للأصلح فهم كانوا الناجين الذين نقلوا هذه الآلية في التحليل واتخاذ القرار جينيًا وسلوكيًا لأحفادهم (نحن)...
إذًا هل لا زالت هذه الآلية فعالة حتى اليوم؟
نعم وتسمى انحياز كشف العامل Agent Detection Bias أو ما يسمى بـ The Hyperactive Agency Detection Device (HADD) وهي موجودة عند الحيوانات بما فيهم الإنسان وتُعرّف على أنها آلية تطورية تؤثر على صنع القرار عند الحيوانات بما فيها القرار والمعتقدات والسلوكيات لدى البشر، ويعتقد أنها تشكلت كاستراتيجية للبقاء. وهو يحدث في حالات الشك والخوف، فيخلق البشر فكرة وجود عامل ذكي، مثل عدو أو مفترس، لتبرير وتشجيع السلوك الحذر، أي بيمشوا على مبدأ إني كون خطأ وسالم أحسن ما أتأكد من الشي وكون على صواب وما أقدر أنجو Better safe than sorry.. وهذا الميل هو أحد أسس رهان پاسكال Pascal’s Wager الذي تكلمت عنه في مقال سابق..
هذا الانحياز والسلوك تطور إلى أنه لم يعد مجرد انحياز لافتراض الشيء من باب الحذر بل تحول إلى آلية تفكير تلقائي حيث أصبح من السهل على دماغك أن يتقبل ودون دليل فكرة أنه ما دام هنالك سبب فهذا السبب حي أو عاقل، وفي الحقيقة أنت حر أن تتبع ما ورثته عن الأجداد من طرق نجاة تطورية لكن لا تستطيع استخدامه في محاججة منطقية.. يعني بالمختصر إذا هزت الشجرة وراءك فمن حقك الهرب لكن ليس من حقك بعد هروبك دون ما ترى سبب اهتزاز الشجرة أن تأتي وتقول لي أنك متأكد أن ما من هزها دب بري ثم تستغرب أنني لم أقتنع معك وطالبتك بدليل...
يحكى أنه في قرية بعيدة كان هنالك رجل اسمه "حمّود" معروف عنو أنو خوّيف كتير، تأخر بالحقل وكان راجع بالليل فجأة هزّت وراه شجرة، قام ركض وهرب ووصل عالضيعة عم يلهت.. سألوه أهل الضيعة (وهني بيعرفوه خويف) أنو ليش هيك عم تركض يا حمّود قام قلهم "كنت جاي من الحقل وطلعلي من الشجرة عشرين ذئب"، قاموا قالولوا "حمّووووود عشرييين ذئب!! زودتها حمّود".. قام قلهم "مو عشرين عشرين، يعني شي عشرة".. قالولوا "عشرة بشجرة! لساتها كبيرة الشطحة حمّود" قلهم: "خمس ذئاب".. قالولوا: "كمان خمسة كتير".. قلهم: "ذئب وهجم عليي".. قالوا: "ذئب وهجم عليك وقدرت تهرب!؟ متأكد أنو ذئب أنت شفتو يا حمّود؟".. قام قلهم حمود: "يلعن هالحالة معكم، شو اللي كان عم يهز الشجرة لكن!!"...
عزيزي... لا تكن مثل حمّود!
حضرتك سلبت كل صفات هذا السبب
ReplyDeleteلو استبدلت هذا السبب بالعدم لن تختلف الأمور كثيراً
لم تثبت له الا لفظ "سبب" لا أكثر
هل تعتقد أن هذا السبب المسلوب كل الصفات ينتج عنه هذا الكون بدون أي صفة له !!!