هل حقًا تدعم ادعاءات السببية الاستنباطية أو الاستقرائية المعتقدات الدينية

 


كُتبت في: 10/01/2021

الدليل السببي أو السببية Causality هي أكثر الأدلة شيوعًا واستخدامًا لدعم الفكرة المشتركة بين الأديان وهي وجود قوة عاقلة سببية غائية (هدفية) خالقة لهذا الكون، فهل هذا الدليل حقًا يدعم هذا الادعاء؟ وهل هروب بعض الأديان من كون السببية استدلال ومنطق استقرائي Inductive Reasoning إلى كونها استدلال ومنطق استنباطي Deductive Reasoning يغير من ضعف هذه الحجة شيئًا؟

لنبدأ بدايةً بتعاريف بسيطة لبعض المصطلحات التي سأتطرق إليها في تفنيد هذه الحجة...
السببية Causality أو ما يسمى بعلاقة السبب والنتيجة Cause and effect ببساطة ودون الدخول بالتعاريف الكثيرة والمعقدة هي العلاقة بين السبب Cause والأثر أو النتيجة Effect وهي أن لكل أثر أو نتيجة سبب يقف خلفه ومنه فإن لكل موجود (نتيجة) موجِد (سبب) ولكل متحرك (نتيجة) محرك (سبب) وهكذا...

الاستنباط (المنطق/الاستدلال الاستنباطي) Deductive Reasoning هو ببساطة استنباط النتائج انطلاقًا من مقدمات عامة صحيحة، أي أن وجود مقدمة صحيحة سيفضي للحصول على نتائج صحيحة؛ ومثالًا على هذا هو قولنا: أن كل إنسان حي سيموت (مقدمة عامة تعتبر صحيحة)، ينتج عنه أن فلان إنسان حي إذًا فلان سيموت (نتيجة مستنبطة تعتبر صحيحة)..

الاستقراء (المنطق/الاستدلال الاستقرائي) Inductive Reasoning هو آلية معاكسة للمنطق الاستنباطي تعتمد على الانطلاق من مشاهدات صحيحة تخلق استنتاجات يمكن من استنتاج قاعدة عامة تنطبق على كل فرد في المجموعة حتى لو لم أرى جميع الأفراد.. كأن أقول: من دراستي لما لدي من معادن (خمسين معدن مثلًا) فكل هذه المعادن تتمدد بالحرارة إذا قاعدة أن جميع المعادن تتمدد بالحرارة قاعدة صحيحة..

وهذان الأسلوبان يُستخدمان في الفلسفة والعلوم ولكل منهما دوره وأهميته ما دام تم تطبيقه بشكل صحيح وبناء منطقي قويم وسماحية خطأ تبتعد عن التعميم.. ومشاكل النوعين أن بناء قاعدة عامة خطأ في الاستدلال الاستنباطي سيولد نتائج خطأ كأن أقول (جميع السوريين يتحدثون اللغة العربية، هذا الشخص سوري إذًا هو يتحدث العربية) هذا استنباط خاطئ فقد يأخذ شخص ما لا يتحدث العربية الجنسية السورية إن كان والده سوري.. وكذلك اعتماد التعميم الاستقرائي Inductive generalisation هو مشكلة قد تنتج عن الاستدلال الاستقرائي كأن أقول (دراستي لخمسين معدن أثبتت أنهم في الحالة الصلبة، إذًا جميع المعادن توجد في الحالة الصلبة) ومن ثم أكتشف الزئبق وهو معدن سائل...
إذًا فصحة القاعدة العامة مطلوبة بمنطلق ننطلق منه في الاستدلال الاستنباطي وعدم التعميم مطلوب بالاستدلال الاستقرائي...

وهنا وقبل الدخول في الدليل السببي وهل فعلًا يدعم المعتقدات الدينية، دعوني أنوه إلى أن بعض المتدينين الذين حاولوا اعتماد المنطق لإثبات معتقداتهم الدينية اكتشفوا المشكلة العظمى في الاعتراف أن السببية هي استدلال استقرائي، كما اتفق أغلب الفلاسفة، وهي عدم قابلية التعميم في الاستدلال الاستقرائي وحجتهم قائمة بشكل أساسي على التعميم لذا اعتبروها استدلال استنباطي...
فالصحيح أن السببية ليست استدلال استنباطي لأننا لم ندرس جميع النتائج في الكون لنعتبر أن القاعدة العامة أن لكل نتيجة سبب هي قاعدة صحيحة بالتالي نستطيع أن نستنبط منها أن الكون نتيجة، إذًا حكمًا له سبب أو أن الكون موجود إذًا حكمًا له موجد؛ بل السببية استدلال استقرائي لأننا درسنا النتائج التي أمامنا ووجدنا أن لكلٍ منها سبب فوضعنا قاعدة (غير قابلة للتعميم) أن لكل نتيجة سبب.. إذًا، إذا اعترف دعاة أن (الدليل السببي هو دليل على وجود موجِد للكون) أن هذه القاعدة غير قابلة للتعميم إذًا هذا اعتراف منهم أن هنالك احتمال أن يكون هنالك نتيجة دون سبب كأن يكون الكون موجود دون سبب...

المضحك أن دعاة الدليل السببي وعند تطبيق السببية كدليل إثبات وقعوا في معضلة اللانهائية، وهي أنه إن كان لكل نتيجة سبب فهذا سيستمر إلى المالانهاية دون توقف وأنه سيطرح سؤال هو (إن كان هنالك قوة خالقة للكون فهي أيضًا موجودة ونتيجة إذًا ما سببها ومن أوجدها) ولتجنب هذه المعضلة ظهر ادعاء أرسطو بما يسمى المحرك الأول أو المحرك الذي لا محرك له Unmoved Prime Mover وهو أن هنالك محرك أول أو سبب أول لا محرك له ولا مسبب له وهذا أول خرق لفكرة أن السببية استنباطية وليست استقرائية وهذا سبب سقوط هذا الادعاء لأنه ببساطة طرح احتمالية وجود شيء دون موجد إذًا لماذا لا يكون الكون موجود دون موجد، هنا حاول أنصار الدليل السببي أن يتجاوزوا هذه المشكلة بقولهم أن السببية تطبق ضمن القوانين الفيزيائية الكونية فقط والمحرك الأول خارج الكون لا تنطبق عليه، وهذا جميل إذًا لماذا لا نقول أن الجسيم عالي الكثافة المتناهي الصغر الذي انبثق منه الكون عبر انفجاره هو أيضًا كان خارج الكون والقوانين لأن الكون لم يكن موجودًا بعد وبالتالي يمكن لهذا الجزيء أن يوجد دون واجد حسب منطقهم؟!

والآن سأكون لطيفًا معهم وأوافق جدلًا على وجود محرك أول لا محرك له، فهل هذا يكفي لدعم معتقداتهم؟
للأسف لا، فقد سبق وقلت أنه إذا كنت تحتاج 1000كم لإثبات وجودة قوة ما وراء وجود الكون فأنت تحتاج مليون كم لتثبت أن هذه القوة عاقلة ومليار كم لتثبت أن هذه القوة سببية هدفية وتريليون كم لتثبت أنها تتواصل مع البشر ومليون سنة ضوئية لتثبت أنها إله أحد الأديان الـ4200...

لنختم بهذا المثال الذي يوضح عدم صحة استخدام الدليل السببي لا استنباطيًا ولا استقرائيًا لدعم المعتقدات الدينية:
لنفترض أنك دخلت إلى غرفة ووجدت قلمًا على الطاولة، فاستقرائيًا من تجاربنا نعرف أن وجود أي شيء على الطاولة لابد من سبب لوجوده؛ واستنباطيًا باستخدام القاعدة العامة ضمن قوانيننا الأرضية فوجود قلم على طاولة يعني لابد من وجود سبب لوجوده على الطاولة.. إذًا منطقيًا ووفق قوانيننا الأرضية نستطيع أن ندعي ادعاءً حقيقيًا أن هنالك سبب لوجود هذا القلم على الطاولة فقط لا غير ولكن لا نستطيع أن نبني أي ادعاء لاحق عليه، كأن أن نقول مثلًا (وجود القلم على الطاولة يعني أن إنسان وضعه عليه) فمن الممكن أن القلم كان ملصق على السقف لسبب ما ومع مرور الزمن تلف اللاصق وسقط القلم على الطاولة أو أن غرابًا مثلًا كان يحمل القلم ودخل من النافذة ووضعه أو أو... أي أن هنالك الكثير من الاحتمالات الأخرى غير أن إنسان وضعه على الطاولة؛ فكيف بالذي يريد أن يستخدم وجود القلم على الطاولة ليقول لك أن هذا دليل على أن من وضعه إنسان واسمه فلان ووضعه لأنه يريد أن يجري لك امتحان وشروط الامتحان هي كذا وكذا وإذا فشلت فيه ستعاقب كذا... كل هذه ادعاءات قائمة فقط على وجود قلم على الطاولة!!!

نفس الشيء في حالة الكون، وجود الكون يعني وجوده فقط وليس بالضرورة أن يعني أن له موجد لأن السببية استقرائية وليست استنباطية، وحتى إن كان له موجد فلا دليل أنه قوة عاقلة، وإن كان قوة عاقلة فلا دليل أنها غائية هدفية، وإن كانت هدفية غائية فلا دليل أنها من تدعي أنها هي، ولا أن ما تدعي أنها تطلب منا هو ادعاء صحيح.. فكل ما بنيت عليه كلامك هو وجود قلم على طاولة!

Comments

أكثر المقالات قراءة:

قراءة في "معجزة خلق الجنين" ما بين السردية الإسلامية وكتاب غالين

أصل الحياة (التولد الذاتي)، ودراسة جديدة لردم جزء من هذه الفجوة

الفرق بين الحجة والادعاء والدليل، وما هي أنواع الدليل

هل يمكن نفي ما لا دليل عليه؟ إثبات الادعاء السلبي المبهم Proving a Negative

ما بين رهان باسكال ورهان أوريليوس يتم التفريق بين التاجر والإنسان.. بين الإيمان والأخلاق