حجة الضبط الدقيق من وجهة النظر الغائية عند الأطفال

 

كُتبت في: 13/07/2021


لماذا تسقط الأمطار؟ كي تشرب الخيول والأشجار..
لماذا تنمو الغابات؟ كي تختبئ فيها القنافذ والغزلان..
لماذا تشع الشمس؟ لأن الدفء ضروري لنمو الإنسان والكائنات الحية..
لماذا توجد القوانين الكونية؟ كي تكون مناسبة لحياة الإنسان..


إن كنت تعتقد أن إجابتي السؤالين الأولين مضحكتان أما إجابتي السؤالين الأخيرين منطقيتان فأنت مخطئ، فالأسئلة الأربعة مبينة وفق نفس الآلية، وهي آلية تسمى التفسير الغائي المشوّش (المختلط) promiscuous teleological explanation، وهي توجد عند الأطفال وتستمر عند الكبار ولكن بشكل يبدو أكثر عقلانية لأنهم يستخدمونها لتفسير أشياء أعمق وأكثر تعقيدًا..


الغائية Teleology هي الميل إلى تفسير الأشياء من حيث وظيفتها بدلاً من سببها. وعادةً ما يتبعها الكبار عند الحديث عن الأشياء المصنوعة بشريًا كأن نقول كرسي (من أجل) الجلوس وبعض الأشياء الطبيعية كأن نقول يد (من أجل) تحريك الأشياء. ولكن هذه الآلية من التفكير لا تبدأ بعد أن يكبر الإنسان بل توجد بقوة وبوضوح أكبر عند الأطفال حيث يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك ويشرحون حتى الظواهر الطبيعية بطريقة غائية كأن يقولوا أن الأشجار موجودة بحيث يمكن للقنافذ أن تختبئ فيها، والفيلة موجودة لنشاهدها في حديقة الحيوانات.


اسمحوا لي في البداية أن أستعرض لكم بعض الدراسات حول هذا الموضوع:
ذكرت إحدى الدراسات (المصدر1) أن أحد الجوانب الأساسية لفكر البالغين هو الميل "الغائي" لافتراض أن الأشياء موجودة لغرض ما، فعند رؤية جزء تشريحي غريب في جسم حيوان ما، فإن السؤال الأول الذي يطرحه الشخص البالغ عادة هو "ما الغرض من ذلك؟" أي يسأل بطريقة يفترض فيها أنه يمكن تفسير الكائن غائيًا من حيث وظيفته، ومن المحتمل أن يكون التحيز لعرض الأشياء على أنها "مصممة لغرض" مستمدًا من فهم الأطفال المتميز للسلوك المتعمد والمصنوعات اليدوية. فالأطفال عرضة لـ "الغائية المختلطة promiscuous teleology" حيث يُنظر إلى المصنوعات والأشياء الطبيعية من جميع الأنواع على أنها موجودة لوظيفة ما. لهذا السبب، ركزت الدراسة على أننا يجب أن نكون حذرين بشأن اعتبار وجود التحيز الغائي المبكر كدليل على وجود فهم بيولوجي موجود بشكل مستقل عن التأويل النفسي للكائنات الحية.


وأكدت دراسة أخرى (المصدر2) هذا الطرح وأضافت عليه أن ميل الأطفال للتفسير الغائي (الغاية من وجود الشيء وأنه موجود لقضاء وظيفة ما) على التفسير السببي (سبب وجود الشيء وأنه موجود بسبب ما) ليس نابعًا عن الأهل بل لميلهم النفسي والعقلي لهذا التفسير.


وبينت دراسة ثالثة (المصدر3) أن هذا التفكير الغائي المشوش (المختلط) لدى الأطفال يتغير مع الوقت وخاصة مع الاكتساب المعرفي، حيث تبين أن الأطفال عادة ما يقدمون تفسيرات غائية لسمات الكائنات الحية والأشياء المصنوعة، منذ سن مبكرة جدًا (3-4 سنوات). ومن ثم يحدث تحول تطوري في التفسيرات الغائية للأطفال، من الغائية غير الانتقائية non-selective teleology في مرحلة ما قبل المدرسة إلى الغائية الانتقائية selective teleology في الصف الثاني. حيث أنهم في الصف الثاني، قدموا تفسيرات غائية في الغالب لشكل أقدام الكائنات الحية وشكل المصنوعات، في حين قدم أطفال ما قبل المدرسة تفسيرات غائية للأشياء الطبيعية غير الحية أيضًا لكل من اللون والشكل.


ولدراسة بعض العوامل المؤثرة في التفكير الغائي عند الكبار قامت دراسة (المصدر4) بتجربتين لمعرفة ما إذا كان للكبار تحيز لصالح التفسيرات الغائية كالتحيز الواسع لها الذي عند الأطفال. في التجربة الأولى؛ حكم الطلاب الجامعيين على سلسلة من العبارات على أنها تفسيرات "جيدة" (أي صحيحة) أو "سيئة" (أي غير صحيحة) لسبب حدوث ظواهر مختلفة. وتم إصدار الأحكام في ثلاث سرعات إجابة مختلفة: سريعة جدًا، سرعة معتدلة، أو بطيئة. حكم المشاركون في ظروف الإجابة بسرعة عالية على التفسيرات الغائية غير المبررة علميًا بشكل ملحوظ بأنها صحيحة (على سبيل المثال، "تشع الشمس الحرارة لأن الدفء يغذي الحياة")، لكنهم كانوا أقل عرضة للخطأ في عناصر التحكم (على سبيل المثال، التفسيرات المادية غير المبررة مثل "تشكل التلال بسبب تجمد مياه الفيضانات"). ووسعت التجربة الثانية فهم هذه النتائج من خلال فحص العلاقة بين الجوانب المختلفة "للغائية المشوشة promiscuous teleology" للبالغين والمتغيرات الأخرى مثل المعرفة العلمية والمعتقدات الدينية والتحكم المثبط.


حيث أن التحكم التثبيطي Inhibitory control هو عملية إدراكية تسمح للفرد تثبيط نزواته وتثبيط الاستجابات الاعتيادية للمنبهات (ويقصد بالاستجابة الاعتيادية هنا الأكثر قوة وغريزية وانتشار) في سبيل اختيار السلوك الأنسب الذي يتسق مع تحقيقه الأهداف.
وأشارت الدراسة إلى أن البالغين - خاصة أولئك الذين لديهم تحكم مثبط ضعيف - يكشفون عن ميل لتفسير الظواهر الطبيعية الحية وغير الحية على نطاق واسع بالإشارة إلى الغرض منها أي بطريقة غائية. تتوافق هذه النتائج مع الاقتراح القائل بأن التفسير الغائي يتم الحفاظ عليه كتقصير توضيحي طوال عملية التطوير أي يحتفظ فيه لتوضيح بعض الظواهر بدلاً من استبداله باكتساب تفسيرات مبررة علميًا خاصة عند الأشخاص الذين لديهم تحكم مثبط ضعيف. وتكشف هذه النتائج أيضًا أنه على الرغم من التعرض للتفسيرات السببية التي تميز العلم المعاصر، فإن البالغين يحتفظون ببعض الأفكار الغائية غير المبررة علميًا بشكل واضح للغاية.


وتختلف درجة الغائية لدى الكبار باختلاف نوع الطروح فعادة ما يميلون إلى استخدام الغائية في الطروحات التي توافقه معتقداتهم حيث أن إنشاء محفزات "الاعتقاد الصريح" في التجربة الثانية كان مدعومًا ببديهيات "توجيهية" تدعم المعتقدات الضمنية التي تخدم الآخرين وتتسق مع المفاهيم القائلة بأن الكيانات موجودة لجوانب أخرى من النظام الطبيعي (على سبيل المثال، "الشمس تشع الحرارة لأن الدفء يغذي الحياة") مع رؤية الطبيعة ككائن حي موجه نحو الهدف ويحافظ على ذاته. ولكن هذا التفسير الغائي قلّ مع الأشياء التي لا ترتبط بالمعتقدات الضمنية حيث لم توجد أفكار غائية صريحة لطروح مثل "الجراثيم تتطفر لتصبح مقاومة للأدوية" أو "الزلازل تحدث لأن الصفائح التكتونية يجب إعادة تنظيمها" حيث أن هذه المعتقدات خاطئة معزولة ومكتسبة بشكل مستقل وبطريقة مجزأة. ويمكن القول أن التفسيرات الغائية تستفيد من الافتراض العام، البدائي المعرفي، بأنه إذا أدت ظاهرة ما نتيجة وظيفية مقنعة أو بارزة، فمن المحتمل أن هذا النشاط "تسبب فيها" لتحقيق هذا الغرض، وهذا يثير عددًا من الأسئلة. على سبيل المثال، ما هي الميزات التي يجب أن يتصف بها نشاط وظيفي معين لكي يتم الحكم عليه بشكل مقنع أنه تم من أجل تحقيق الظاهرة التي ينتجها؟


والنتيجة النهائية لهذه الدراسة هي أن البالغين المتعلمين بالجامعة، مثل الأطفال، يقدمون بسهولة تفسيرات غائية غير مبررة علميًا. تسلط هذه النتائج الضوء على التحديات التي يواجهها اختصاصيو التوعية في كل من علوم الحياة والعلوم الفيزيائية حيث يبدو أن مصدر المقاومة الشعبية للأفكار العلمية عميق.


وأكدت دراسة خامسة تمت على مرضى ألزهايمر ما سبق (المصدر5) وبينت أن الأطفال الصغار يظهرون ميلًا "مختلطًا مشوشًا" لشرح الأشياء والظواهر من خلال الإشارة إلى الوظائف، وتأييد ما يسمى بالتفسيرات الغائية. ويقل هذا الاتجاه ويصبح أكثر انتقائية عندما يكتسب الأطفال معتقدات متماسكة بشكل متزايد حول الآليات السببية. الدراسة المذكورة حققت في هذا السؤال من خلال فحص الأحكام التفسيرية في المرضى الذين يعانون من مرض ألزهايمر (AD)، حيث أثر ضررالمرض العقلي عند هؤلاء المرضى على المعتقدات السببية الغنية التي عادة ما يستخدمها البالغون في تقييم التفسيرات. وتشير النتائج إلى أنه على عكس البالغين الأصحاء، يفضل مرضى ألزهايمر بشكل منهجي ومختلط التفسيرات الغائية، مما يشير إلى أن الميل الأساسي لتفسير العالم من حيث الوظائف يستمر طوال الحياة، ويساعد في فهم العيوب المفاهيمية في مرض ألزهايمر، وكذلك فهم نظريات التنمية والتعلم والتغيير المفاهيمي، وعلاوة على ذلك، يسلط هذا الاكتشاف الضوء على الميل الأولي البديهي لفكرة الخلق.


إذًا فكرة الخلق وأن الكون مصمم بطريقة ذكية لخدمة الإنسان ومن أجل وجوده وحياته وأنه مصنوع بطريقة محددة من أجل أن ينتج الإنسان هي أشياء ترجع إلى تفكير غائي تعود أصوله إلى التفسير الغائي المشوّش (المختلط) promiscuous teleological explanation الموجود عند الأطفال قبل الاكتساب المعرفي والموجود أيضًا عند البالغين لدى إطلاقهم أحكام بسرعة أو البالغين ضعيفي التحكم التثبيطي وبعض الحالات الصحية المؤثرة على الوظائف الدماغية كمرض ألزهايمر.. أي باختصار هذه التفسيرات ترتبط بضعف الاكتساب المعرفي وقدرة التحليل مما يسبب الميل إلى تفاسير سهلة بسيطة لا علمية... وهذا يسبب عقبة عند عامة الناس لتقبل التفسيرات العلمية والتخلص من تفسيراتهم الشخصية..


هل يمكن التخلص من التحيز للغائية؟
الجواب نعم، وهذا يتم بالاكتساب العلمي والمعرفي حتى لدى الأطفال، فقد نشرت دراسة (المصدر6) حول كتب قصص مصورة للأطفال حول الانتقاء الطبيعي. فعندما سُئل الأطفال عن كيفية تغير إحدى السمات في نوع ما، فإن غالبية الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 10 سنوات قدموا تفسيرًا غائيًا: "للزرافة رقبة طويلة بحيث يمكنها الوصول إلى الأوراق الأعلى". ثم قدموا للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و8 سنوات كتبًا قصصية عن حيوان مختلق شبيه بآكل النمل. على مدار القصة، يتعلم الأطفال أن بعض هذه الحيوانات لديها خراطيم طويلة ورفيعة بينما البعض الآخر لديه خراطيم قصيرة وسميكة وأن جميعها تأكل الحشرات. يتغير الطقس وتتحرك الحشرات تحت الأرض. هؤلاء الحيوانات التي لديها خراطيم رفيعة طويلة لا يزالون قادرين على الوصول إلى الحشرات ولكن أولئك الذين لديهم خراطيم سميكة قصيرة لا يستطيعون ويموتون. فقط أولئك الذين لديهم خراطيم رفيعة طويلة هم على قيد الحياة ولديهم أطفال لديهم أيضًا خراطيم طويلة ورفيعة. بعد قراءة القصة، طُرح على جميع الأطفال سلسلة من الأسئلة حول حيوان جديد لم يروه من قبل. على سبيل المثال: "كيف تحولت ويلكي البالغة من أرجل قصيرة منذ عدة مئات من السنين إلى أرجل أطول اليوم؟'' وجاوب غالبية الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و8 سنوات أن هذا التغيير من حيث التكيف والتكاثر، بدلًا من الغائية المشوشة، وهذا هو النمط المعاكس لردودهم قبل قراءة القصة. ولعل الأمر الأكثر إثارة هو أن التعلم يبدو ثابتًا. فعندما طُرح على نفس الأطفال سؤالاً مماثلاً عن حيوانات أخرى غير مألوفة بعد 3 أشهر، أوضح معظمهم التغييرات بمرور الوقت من حيث التكيف والتكاثر بدلاً من الغائية.
في الختام: إن كنت تعتقد أن قوانين الكون وجدت هكذا كي تكون مناسبة لنشوء حياة، بدل أن تفكر أن الحياة نشأت لأن قوانين الكون هكذا..
نصيحة.. فكر مجددًا..

المصادر:

1. Kelemen D. Function, goals and intention: children's teleological reasoning about objects. Trends Cogn Sci. 1999 Dec;3(12):461-468. doi: 10.1016/s1364-6613(99)01402-3. PMID: 10562725. https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/10562725/
2. Kelemen D, Callanan MA, Casler K, Pérez-Granados DR. Why things happen: teleological explanation in parent-child conversations. Dev Psychol. 2005 Jan;41(1):251-64. doi: 10.1037/0012-1649.41.1.251. PMID: 15656753. https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/15656753/
3. Kampourakis, K., Palaiokrassa, E., Papadopoulou, M. et al. Children’s Intuitive Teleology: Shifting the Focus of Evolution Education Research. Evo Edu Outreach 5, 279–291 (2012). https://doi.org/10.1007/s12052-012-0393-2https://evolution-outreach.biomedcentral.com/articles/10.1007/s12052-012-0393-2
4. Kelemen D, Rosset E. The human function compunction: teleological explanation in adults. Cognition. 2009 Apr;111(1):138-43. doi: 10.1016/j.cognition.2009.01.001. Epub 2009 Feb 5. PMID: 19200537. https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/19200537/
5. Lombrozo T, Kelemen D, Zaitchik D. Inferring design: evidence of a preference for teleological explanations in patients with Alzheimer's disease. Psychol Sci. 2007 Nov;18(11):999-1006. doi: 10.1111/j.1467-9280.2007.02015.x. PMID: 17958715. https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/17958715/
6. Kelemen D, Emmons NA, Seston Schillaci R, Ganea PA. Young children can be taught basic natural selection using a picture-storybook intervention. Psychol Sci. 2014 Apr;25(4):893-902. doi: 10.1177/0956797613516009. Epub 2014 Feb 6. PMID: 24503874. https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/24503874/


Comments

أكثر المقالات قراءة:

قراءة في "معجزة خلق الجنين" ما بين السردية الإسلامية وكتاب غالين

أصل الحياة (التولد الذاتي)، ودراسة جديدة لردم جزء من هذه الفجوة

الفرق بين الحجة والادعاء والدليل، وما هي أنواع الدليل

هل يمكن نفي ما لا دليل عليه؟ إثبات الادعاء السلبي المبهم Proving a Negative

ما بين رهان باسكال ورهان أوريليوس يتم التفريق بين التاجر والإنسان.. بين الإيمان والأخلاق