الخير والشر.. وليدا الفعل أم الإدراك أم الرغبة أم الحرية؟
كٌتبت في: 09/09/2019
الخير والشر يعرّفان في المجتمع الإنساني كقيمتين مطلقتين absolute values للشيء الجيد والسيء على التوالي متموضعين كمقياس لتصنيف الأشياء على محور بإشارتين متعاكستين يتدرج أي شيء على هذا المحور من القيم الإيجابية التابعة للخير إلى القيم السلبية التابعة للشر..
حسب الأديان الحديثة يتم دومًا وصف الخير والشر بأنهما قطبين متعاكسين لكن متلازمين لا يتداخلان معًا أبدًا بحيث يكونان متنافيين وفي نفس الوقت متكاملين شاملين في حالة تسمى لغويًا "الديكوتومية" Dichotomy بحيث يعتبر الشر الحالة المعاكسة المناقضة والمعادية للخير ضمن منظومة ثنائية هي منظومة الخير والشر أو بوصف آخر فالشر يعتبر dualistic antagonistic opposite بالنسبة للخير، وطبعًا الهدف الأساسي لهذه الأديان هو إظهار الخير على الشر.. وحتى في الأديان التي يتداخل الخير مع الشر فهو يتداخل لكن بحدود واضحة ليس بسبب قابلية تداخل المفهومين بل بسبب طبيعة الوعاء الحاوي لهما والذي من غير الممكن أن يكون خيرًا مطلقًا أو شرًا مطلقًا وإلا تحول لطبيعة مختلفة..
في الأديان القديمة متعددة الآلهة Polytheism كان يوجد إله للشر مرافق لإله الخير ولهم سلطات متساوية وفي كثير من الأحيان كانا أخوة يوجد بينهما تداخل والاثنان يتميزان بالقدرة على خلق عوالمهما وجنودهما ويوجد صراع بين الاثنين مثل صراع إله الظلام عند الفراعنة "ست Seth" مع أخوه إله البعث والحساب "أوزيريس Osiris"، وصراع إله العالم السفلي اليوناني "هاديس Hades" مع أخوه أب الآلهة اليونانية "زيوس Zeus" وغيرهم كما في الزرادشتية والتي فيها يقوم إله الخير "أهورا مازدا Ahura Mazda" بخلق إله الشر "أهرمان Ahriman"..
ومع تطور الأديان ووصول الإنسان لفكرة الإله المطلق تم ربط فكرة الوحدانية بهذا الإله لذلك كان لابد من تراجع سلطات أي إله أو كيان آخر أمامه لتحقيق هذه الوحدانية ولأن الإله المطلق يتصف بالخير المطلق مع تميزه بالقدرة على الخلق تم تراجع سلطة الشر (كمصطلح) وإعطائها لكيان هو ضد لهذا الإله مطلق الخير لكن بقدرات أقل ممنوحة له من هذا الإله نفسه في سبيل تجربة البشر وليس كسلطة، وطبعًا تم سحب قدرة الخلق من الكيان الشرير، ومع الوقت وبالرغم من إطلاق مسميات جديدة للشر كشيطان وغيرها بقي الخير والشر محافظين على مكانتهما حتى وقتنا هذا ولا زال الخير والشر Good and Evil تعني الإله والشيطان وإن كان هذا يظهر إصطلاحًا في بعض الأديان أكثر من غيرها.. حتى في الأفلام والمسلسلات نجد الخير والشر متساويين في القوة متعاكسين في الاتجاه..
وإذا عدنا إلى سؤالنا: هل الخير والشر وليدا الفعل أم الإدراك أم الرغبة أم الحرية؟ وكيف يمكن أن نصنف العمل كخير أو شر؟
لتصنيف العمل كخير أو شر على مقياس (خير-شر) بقيمتين مطلقتين متعاكستين، خير (إيحابي)، وشر (سلبي)؛ يجب أولًا أن نحدد إمكانية وضع عمل ما على هذا المقياس بقيمته المطلقة (قيمة دون إشارة) ومن ثم تحديد إشارته هل هي إيجابية (خير) أو سلبية (شر)..
لنناقش كل منها على حدا، ونبدأ بإمكانية وضع شروط محددة لوضع عمل ما على محور (خير-شر) عبر تحديد عن ماذا ينتج الخير والشر..
إذا قلنا أن الخير والشر هما وليدا الفعل؛ فهل قرص البعوض للإنسان ونقل الأمراض له عمل شرير؟ وهل هجوم الذئب على القطيع لافتراسه أمر شرير؟ وهل قتل الإنسان لإنسان نتيجة الخوف على حياته أمر شرير؟
كثير من الأمور يتم القيام بها بدافع من الغرائز الأساسية كالجوع والعطش والخوف والحاجة للجنس وغريزة البقاء وتكون نتائجها سيئة ولكن هل تصنف كعمل شرير؟
إذًا علينا أن نضيف لما سبق شرط أن يكون الفعل غير مدفوع من الغرائز الرئيسية، إذا هل الخير والشر وليدا "الفعل، مع انعدام وجود الحاجة لفعل هذا العمل"؟
فهل الخير والشر وليدا "الفعل، مع انعدام وجود الحاجة لفعل هذا العمل، مع وجود إدراك لحيثيات ونتائج هذا الفعل"؟
في بعض الأحيان يقوم أحد بدهس أحد آخر بالسيارة عن غير قصد، أو يقوم بإيذاء أحد بطريقة ما عن غير قصد فهل هذا شر؟ هنا نجد الفعل، وهو غير ناجم عن الحاجة، ويوجد إدراك لحيثيات ونتائج الفعل، ولكن ما ينقص هنا هو الرغبة بالقيام بهذا الفعل فمن فعله لم يكن يرغب بقيامه.. إذا الرغبة أيضًا شرط جديد!
فهل الخير والشر وليدا "الفعل، مع انعدام وجود الحاجة لفعل هذا العمل، مع وجود إدراك لحيثيات ونتائج هذا الفعل، مع وجود الرغبة بالقيام به"؟
حارس بناء ما يقوم بحراسة هذا البناء وحمايته، هنا نجد الفعل وإدراك حيثياته ونتائجه والرغبة بالقيان به، لكن هل هو عمل خير أم أنه عمل بمقابل يجب على صاحبه القيام به؟ إذا كان جوابك عمل بمقابل ولا يصنف خير أو شر إذًا يضاف لشروط التصنيف حرية الاختيار وعدم وجود مقابل مشروط للعمل..
إذًا حتى الآن الخير والشر وليدا "الفعل، مع انعدام وجود الحاجة لفعل هذا العمل، مع وجود إدراك لحيثيات ونتائج هذا الفعل، مع وجود الرغبة بالقيام به، مع حرية الاختيار وعدم وجود مقابل مشروط للعمل"..
يبقى السؤال: إذا توفرت كل الشروط السابقة وتحققت شروط تقييم الفعل (القيمة المطلقة له) ووضعه على مقياس (خير-شر) فكيف نستطيع أن نحدد نوعيته (إشارته) هل هي موجبة (خير) أو سالبة (شر) ومن أي وجهة نظر؟
فهل هجوم جهة ما على جهة أخرى لتحقيق رفعة ومجد وتوسع أو حتى حماية أرضها من خطر قد تقوم به الجهة الأخرى لاحقًا هو خير أم شر؟ وإن كان خير فمن وجهة نظر من، وإن كان شر فمن وجهة نظر من؟
هل إذا رأيت قطة تهاجم عصفور فأنقذت العصفور فأنت هنا ارتكبت خيرًا مع العصفور بإنقاذه وشرًا مع القطة بحرمانها طعامها أو العكس في حال لم تنقذه منها؟
وهل حقًا يمكن تقييم الخير والشر كقيمة مطلقة مجردة من وجهات النظر فهي خير مطلق كيفما نظرت إليه وشر مطلق كيفما نظرت إليه..
وفي النهاية إذا فرضنا جدلًا أنه لتحقيق إمكانية وضع عمل ما على مقياس (خير-شر) لتقييمه فيجب أن يكون وليد ما ذكر سابقًا فهل حقًا يمكن تحديد إشارته وبالتالي تبعيته للخير أو الشر..
والسؤال الأساسي: هل الخير مطلق فعلًا وهل الشر مطلق فعلًا، وهل منظومتهما ديكوتومية حقًا يناقض فيها الشر الخير بشكل مطلق وشامل أم أن كل هذه القيم المطلقة هي وجهات نظر ويمكن تلخيصها بأنها a matter of perspective وضعها الإنسان كمعيار توجيه إجتماعي يقلل نسبة التساؤل التالي (لماذا نفعل هذا؟)..
إن كان مفهوم الخير والشر من المفاهيم المهمة التي تقاس عليها الأخلاق، أفلا تؤكد نسبية مفهومي الخير والشر نسبية الأخلاق، ومعياريتها وحاجتها لمعايير متطورة مع تطور الزمان والمنظومة البشرية الفكرية لتحكمها وتحددها، أما اعتماد مرجعية جامدة لما يسمى الخير والشر سينتج لنا ما نراه اليوم من شرور ينفذها البعض وهم واثقون أنها خير...
............
مقال حول نسبية الأخلاق ومعياريتها
مقال حول معضلة يوثيفرو حول مرجعية الأخلاق
الخير و الشر مفهوم واحد فقط و هو نسبي
ReplyDeleteمقال رائع دكتور