هل الأخلاق مطلقة أم متغيرة؟ وهل يجب أن تكون مطلقة أم متغيرة؟

 


كُتبت في: 07/04/2021

في يوم من الأيام وبعد أن قرر إله الخمر دايونايسوس Dionysus (باخوس) شكر الملك ميداس King Midas على ضيافته، طلب منه أن يطلب أي شيء يريده، فاختار الملك ميداس أن يمتلك القدرة على تحويل كل ما يلمسه لذهب وبالفعل أعطاه ديونيسوس هذه القدرة؛ وخلال فترة قصيرة اكتشف الملك ميداس المصيبة التي أوقع نفسه بها، فقدرته المطلقة هذه لم تمكنه فقط من تحويل كل ما يريده إلى ذهب بل وكل ما لا يريده أيضًا؛ فهو الآن لا يستطيع تناول طعامه لأنه يتحول ذهبًا بمجرد لمسه بل وحتى عندما حاول حضن ابنته تحولت في لحظتها إلى ذهب The Golden Touch of King Midas..

أول مرة قرأت هذه الأسطورة خطر لي أن أضع نفسي مكان الملك ميداس، وأفكر بشيء مطلق مستعد لأن أملكه، هل حقًا يمكن لشيء أن يكون مطلقًا.. هل هنالك فعلًا شيء نستطيع أن نقول أنه جيد بالإطلاق لا ضرر منه أو سيء بالإطلاق لا فائدة منه؟ هل إن كنت كريمًا بشكل مطلق هو أمر جيد هل إذا كنت طيبًا بشكلٍ مطلق هو أمر جيد؟ هل الأخلاق المطلقة فعلًا موجودة؟ هل حقًا يوجد خير مطلق وشر مطلق وعدل مطلق ينطبق بكافة الظروف والحالات والأزمنة والأماكن ويعطي نفس التأثير على الجميع؟

الجواب لا (بالنسبة لي على الأقل).. افتراض وجود شيء دون حجة أو دليل ثم استخدام هذا الافتراض لإثبات صحة موقف ما أو توجه ما، بل والطلب من الطرف الآخر المخالف لك بتقديم طريقة توصلك إلى افتراضك الذي أنت لا تستطيع برهانه ولا حتى إعطاء مثال عليه هو شيء مرفوض منطقيًا...

عدم قدرة البعض على إعطاء حجة على وجود الأخلاق المطلقة أو صحة مطلقية الأخلاق Moral absolutism تدفعه لإرجاعها إلى فرضية أخرى بحيث يستدل على الأولى بالثانية وعلى الثانية بالأولى كأسلوب من أساليب الاستدلال الدائري.. فأنت تفرض وجود أخلاق مطلقة (غير مدعمة بحجة منطقية) بحجة أنها لا بد من وجودها بما أنها صادرة عن كيان سماوي كامل (غير مدعم بحجة منطقية)؛ وتستدل على وجود هذا الكيان (غير المدعم بحجة منطقية) بحجة أنه لا بد من وجوده كضرورة نابعة من وجود أخلاق مطلقة (غير مدعمة بحجة منطقية)..

طيب.. إن عدنا إلى أخلاقيات الأديان التي يدعى أنها نابعة من أخلاق مطلقة وفكرنا بطرح أفلاطون حول معضلة يوثيفرو Euthyphro dilemma (وهنا أقتبس مقطعًا من منشورٍ سابقٍ لي حول هذه المعضلة، رابطه موجود في التعليقات):
أثناء انتظار سقراط Socrates لمحاكمته التقى شخصًا آخر ينتظر التقدم بدعوى، فبدأ الاثنان الحديث وكان هذا الشخص الثاني هو يوثيفرو Euthyphro وقد جاء ليرفع دعوى على والده لأنه قتل عبدًا عنده؛ كان يوثيفرو مؤمنًا متدينًا جدًا يعبد آلهة اليونان ويالرغم من كل الضعوطات عليه أصر على رفع الدعوى لأنه أمر أخلاقي.. وهنا بدأ الحوار بين سقراط ويوثيفرو وسأل سقراط العديد من الأسئلة المهمة التي لا زالت إجاباتها مختلفًا عليها حتى الآن، وأهمها سؤال عن مصدر الأخلاق، حيث سأل سقراط السؤال العظيم البسيط الآتي: "هل الخير أو الصلاح هو كذلك لأن الآلهة اختارته، أم أن الآلهة اختارته لأنه خير وصلاح".. أو ما سمي بمعضلة يوثيفور (للمزيد حول هذه المعضلة)...
ببساطة معنى هذا السؤال هو: هل تأتي صحة الأخلاق والقوانين والتشاريع من كونها صحيحة وبالتالي أيًّا كان مصدرها فقد اختارها هذا المصدر لأنها صحيحة بذاتها، أم أن صحتها تأتي من صحّة المشرّع نفسه أي أنها بغض النظر عن كونها صحيحة أم لا فبمجرد أنها قادمة من مصدر نعتبره صالحًا فهي بالضرورة صحيحة...

إذًا إن كانت هذه الأخلاق مقبولة وصحيحة ومطلقة لأنها صادرة من إله مطلق العلم والحكمة لكانت بقيت صحيحة في كافة الأزمنة والأماكن وذات تأثير ثابت على الجميع، وإن كانت صدرت عن الإله لأنها مقبولة أساسًا في ذاتها في زمن تشريعها إذًا هي بشرية وليست مطلقة ولا يحق لأحد اعتبار صدورها عن إله حجةً على إطلاقيتها..

وحتى هذه الأخلاق الدينية هي أخلاق محدودة ومرتبطة بالجماعة فهي تشريعات لمصلحة الجماعة، فالسرقة حرام إن كانت ضمن الجماعة وحلال إن كانت من شخص خارج الجماعة (لكن بمسميات أخرى)، والقتل أيضًا، والاضطهاد أيضًا، وغيره وغيره..

إذًا قبول فكرة أن الأخلاق هي نسبية معيارية أمر مهم فهو يعطي السلطة للبشر بتطوير منظومتهم الأخلاقية مع تطور منظومتهم الفكرية اعتمادًا على أسس فكرية وعلمية واجتماعية صحيحة، والجميل بالأمر أن المجموعات الإنسانية تزداد حدودها يومًا بعد يوم، فقديمًا كانت التجمعات بسيطة ثم أصبحت قبائل ثم تجمعات كبيرة ثم دول والآن أصبحنا مجموعة إنسانية ولاحقًا قد نصبح مجموعة أحيائية (تجمع جميع الأحياء) ومع تطور المجموعة تتطور الأخلاق البشرية لتكون مناسبة لكل الأفراد.. وحاليًا، ما يجب أن نبحث عنه هو أخلاق تناسب البشر جميعًا وليس جماعات على حساب جماعات، وقريبًا جدًا يجب أن تتطور المنظومة الأخلاقية لتشمل البيئة والكوكب وباقي الأحياء وأتمنى أن لا نكون قد تأخرنا كثيرًا...

Comments

Post a Comment

أكثر المقالات قراءة:

قراءة في "معجزة خلق الجنين" ما بين السردية الإسلامية وكتاب غالين

أصل الحياة (التولد الذاتي)، ودراسة جديدة لردم جزء من هذه الفجوة

الفرق بين الحجة والادعاء والدليل، وما هي أنواع الدليل

هل يمكن نفي ما لا دليل عليه؟ إثبات الادعاء السلبي المبهم Proving a Negative

ما بين رهان باسكال ورهان أوريليوس يتم التفريق بين التاجر والإنسان.. بين الإيمان والأخلاق