سقراط يسأل عن مصدر الأخلاق، والدين واللادين يجيبان نفس الجواب ثم يختلفان

 



كُتبت في: 02/11/2020

أثناء انتظار سقراط Socrates لمحاكمته التقى شخصًا آخر ينتظر التقدم بدعوى، فبدأ الاثنان الحديث وكان هذا الشخص الثاني هو يوثيفرو Euthyphro وقد جاء ليرفع دعوى على والده لأنه قتل عبدًا عنده؛ كان يوثيفرو مؤمنًا متدينًا جدًا يعبد آلهة اليونان ويالرغم من كل الضعوطات عليه أصر على رفع الدعوى لأنه أمر أخلاقي.. وهنا بدأ الحوار بين سقراط ويوثيفرو وسأل سقراط العديد من الأسئلة المهمة التي لا زالت إجاباتها مختلفًا عليها حتى الآن، وأهمها سؤال عن مصدر الأخلاق، حيث سأل سقراط السؤال العظيم البسيط الآتي: "هل الخير أو الصلاح هو كذلك لأن الآلهة اختارته، أم أن الآلهة اختارته لأنه خير وصلاح".. أو ما سمي بمعضلة يوثيفور Euthyphro dilemma...


ببساطة معنى هذا السؤال هو: هل تأتي صحة الأخلاق والقوانين والتشاريع من كونها صحيحة وبالتالي أيًّا كان مصدرها فقد اختارها هذا المصدر لأنها صحيحة بذاتها، أم أن صحتها تأتي من صحّة المشرّع نفسه (الإله) أي أنها بغض النظر عن كونها صحيحة أم لا فبمجرد أنها قادمة من مصدر نعتبره صالحًا فهي بالضرورة صحيحة...


نقاشنا القادم حول جواب الدين واللادين عن هذه المعضلة سيوضح القصد ولكن في البداية دعوني هنا لا أدخل في خلاف جوهري بين الدين واللادين حول حقيقة وجود ما يسمى بالأخلاق المطلقة Absolute Morals أو ما يسمى بمطلقية الأخلاق Moral Absolutism حيث تطرح الأديان وجود خيرٍ مطلق وشر مطلق واللادين يرفض هذه الفكرة ويوضح أن الأخلاق أساسها النسبية ولكن دعونا من هذه النقطة الآن سيأتي وقتها لاحقًا وإن كنت قد تطرقت لها سابقًا في مقال عن الخير والشر،  ومقال عن الأخلاق النسبية..


بالعودة إلى معضلة يوثيفرو Euthyphro dilemma دعونا نناقش جواب الدين واللادين عليها ولكن في البداية علينا أن نقسم صحة الجواب الديني إلى قسمين (صحة الجواب الديني لحظة إنشاء الدين) و(صحة الجواب الديني بعد مرور عصور على إنشاء الدين)..


صحة الجواب الديني لحظة إنشاء الدين:

 عند نشوء كل دين ووضع تشريعاته وقوانينه (وهنا نتحدث عن الأديان الكلاسيكية التي تأتي مع شرائع، والشرائع تعني قوانين حاكمة لتصرفات الفرد) ينطلق هذا الدين من أن الإله أو الآلهة هم مصدر التشريع والأخلاق وأنهم يختارون الأصح والأمثل للإنسان والمجتمع أي أنهم الجواب الديني يختار الشق الأول من طرح سقراط وهو (الخير أو الصلاح هو كذلك لأن الآلهة اختارته) ولكن في نفس الوقت تقوم هذه الآلهة (ويا لمحاسن الصدف) باختيار أخلاق المجتمع الذي نشأت فيه مع تحسينات طفيفة أو جوهرية في بعض الأمور ولكن قابلة للتطبيق في ذلك المجتمع والوقت، فنجد مثلًا التشريعات الدينية تقنن أشياء صالحة لزمانها كالعبودية والقتل وغيرها (اللي حابب يعلق عهي النقطة فيا ريت يفهم شو يعني تقنن أول)، وبهذه الطريقة تظهر هذه الأديان وكأنها طبقت الشق الثاني من طرح سقراط وهو (الآلهة اختارته لأنه خير وصلاح) أي أن هذه التشريعات التي قدمتها الآلهة هي أيضًا خير وصلاح للمجتمع وهذا صحيح في معظم الحالات لمكان وزمان ومجتمع نشوء ذلك الدين...


صحة الجواب الديني بعد مرور عصور على إنشاء الدين:

مع مرور الوقت يتبين أن الأديان في الحقيقة لم تختر إلا الشق الأول (الخير أو الصلاح هو كذلك لأن الآلهة اختارته) بينما الشق الثاني وافق الموضوع بسبب أن الأديان في نشأتها راعت المكان والزمان.. لكن مع تقدم الوقت تصبح العديد من هذه التشريعات غير مناسبة لا للمكان ولا الزمان بسبب تطور الزمان والمكان (كإلغاء العبودية وتجريم قتل المخالف وغيرها) وهنا تتمسك الأديان بالشق الأول وهو أن أخلاق تشريعاتها هي صالحة صحيحة لأنها قادمة من إله صالح بينما لا تستطيع التمسك بالشق الثاني وهو أن هذه الأخلاق والتشريعات صالحة بحد ذاتها فهي لم تعد كذلك وهذه أهم المشاكل التي تعانيها الأديان في تطبيق تشريعاتها في الأزمنة المتقدمة فهي صالحة لأزمنة سابقة ومجتمعات سابقة، وهنا يبدأ ترقيع بعض الأخلاق والتشريعات وتعطيل البعض الآخر دون إلغائه فمن غير الممكن إلغاؤه فهو صالح بالضرورة لأنه قادم من إله صالح حتى لو أثبتت التجربة عكس هذا...


الجواب اللاديني حول هذه المعضلة:

جواب بسيط وهو أن الأخلاق والتشريعات يجب أن تكون صالحة بذاتها وأن المشرع (طبعًا اللادين لا يعترف بأن المشرع هو الإله ولكنه لا يرفض ما يسمى بالتشريعات الإلهية إذا كانت ملائمة، لذلك قد نجد العديد من الأخلاقيات والتشريعات الموجودة في الدساتير والتشريعات العلمانية واللادينية مشابهة ومأخوذة مما يعتبر تشريعات إلهية، فأي تشريعات في التاريخ فيها الصالح وفيها الفاسد وفيها ما كان صالحًا ولم يعد كذلك والصحيح هو تقييم كل منها وتنقيته ورفض الفاسد والذي لم يعد صالحًا والإبقاء على الصالح)..


هذا الطرح اللاديني يقابله اعتراض ديني وهو أنه إذا لم يكن صلاح المشرّع وصحته هو المعيار لتقييم الأخلاق والقوانين فكيف نحدد ما الصحيح وما الفاسد.. الجواب اللاديني بسيط أيضًا.. المعيار في هذا الموضوع هو المجتمع والتطور السلوكي... فقديمًا كانت المجتمعات منفصلة فالأخلاق التي تناسب كل مجتمع هي الأخلاق الصحيحة وقد تكون فاسدة لمجتمع آخر، مع التطور المجتمعي أصبحت المجتمعات البشرية مفتوحة على بعضها وأصبح من الضرورة إيجاد أخلاق مناسبة للجميع، والمشرع في هذه الحالة هو ما يمثل هذه المجتمعات ومصلحتها الكلية عبر إيجاد صيغة وسطى بين الجميع مع الأخذ بعين الاعتبار عدم وجود أو إمكانية وجود صيغة ترضي الجميع ولكن يستمر تطور الأخلاق مع التجارب السلبية منها والإيجابية وهذه أهم نقطة في تقييم صلاح الأخلاق حسب تأثيرها على المجتمع لأنه هذا سيسمح بتغييرها بدلًا من تقديسها لأنها صادرة عن مشرع مقدس وبالتالي فسادها مع الوقت دون إمكانية تغييرها..


اعتراض لاديني آخر وهو أنه ما مصدر الأخلاق وأنه لا بد أن يكون مصدرًا أسمى من البشر.. في الحقيقة لا فمصدر الأخلاق يأتي من الكثير من العوامل البشرية والحيوية:

- التطور السلوكي: التجارب ساهمت في التطور السلوكي للبشر وحتى للحيوانات، حيث أن الأهل ينقلون تجاربهم للأبناء وما هو الصحيح وما هو الخاطئ والأبناء يجربون وكذلك الاصطفاء أدى إلى اصطفاء الأفراد حسب التصرفات التي تضمن تأقلمهم الأفضل...

- المشاعر: فالتعاطف والخوف والمحبة والانتقام وغيرها ينجم عنها قوانين معينة وواجبات وهذه أمور تجدها حتى عند الحيوانات..

- الإسقاط الذاتي Self-projection وهي عملية مقارنة الصح والخطأ على الآخر بتطبيقه على نفسك، حيث أن الإنسان يعرف أنه من الخطأ ممارسة فعل ما على الآخرين إن كان يكره ممارسة الآخرين له عليه والعكس صحيح كأن تعرف أنه يجب عليك مساعدة الآخرين لأنك سترغب أن يساعدك الآخرون، وهذا سلوك وجد حتى عند الحيوانات التي وجدوا عندها فهم بدائي للعدالة والمساواة والاعتذار وغيرها..

- المجتمع والتجارب المجتمعية: أحضر مجموعة من الأطفال وأخبرهم أن عليهم أن يقوموا بمهمة ما عندها سيجد هؤلاء الأطفال صيفة مشتركة للقيام بهذه المهمة تحدد واجب كل شخص، وكذلك المجتمعات فلكل مجتمع مهمات يبني على أساسها ما ينظم القيام بها فما يحقق هذه المهما يعتبر أخلاق جيدة ينجم عنها قوانين وما يعارضها أخلاق سيئة ينجم عنها قوانين وعقوبات..


مما سبق نجد أن البشر يمتلكون غريزة لصنع الأخلاق و يمتلكون آلية لتطويرها وهذا كل ما نحتاجه لامتلاك منظومة أخلاقية متكاملة ولكن ليس مثالية.. بحثُ الإنسان عما يسمى بالمثالية هو ما أدى إلى خلق المنظومة الأخلاقية الدينية التي بحثت كالعادة عن الحل الأبسط والأسهل وهو اختيار المنظومة الأخلاقية العادية المتوفرة وقت نشوئها ونسبها لمصدر مثالي لتكتسب الصحة والمثالية منه ولتفقدها مع مرور الوقت لتؤثر في دورها على مثالية المصدر الذي نُسبت إليه...


أي وباختصار، إن كانت الأخلاق صحيحة أو سيئة بذاتها فالعقل يستطيع أن يعرفها ويتبعها دون حاجة لمشرّع من خارج المنظومة البشرية (إله) لكي يعرّفنا بها، لذا فعدم وجود هذا المشرّع لا يعني عدم وجود أو عدم معرفة الأخلاق؛ أما إن كانت الأخلاق تستمد صحتها أو سوءها من مشرّع خارج المنظومة البشرية (الإله) وليست صحيحة في ذاتها ليعرفها اللإنسان فلا معنى لها ولا ضرورة لاتباعها ولا يمكنك لوم من لا يتبعها لأنها ليست سيئة في ذاتها.. أما القانون الوضعي فهو ضابط متطور لأخلاق نسبية متطورة ليحدد حدودها ضمن مجتمع متنوع المقاييس، وهذا القانون لا يحتاج أن يكون ثابت صادر من مشرّع خارجي بل على العكس يجب أن يكون ناتج عن المنظومة البشرية يتطور ويتغير مع تطور المجتمع البشري ومنظومته الفكرية والأخلاقية..


ولا زال سقراط يتسآءل ولا زال يوثيفرو يحاول أن يعدّل الواقع كي يناسب الجواب الذي اختاره منذ آلاف السنين دون أن يفكر بأنه قد يكون من الأصح تعديل الجواب ليناسب الواقع..

Comments

أكثر المقالات قراءة:

قراءة في "معجزة خلق الجنين" ما بين السردية الإسلامية وكتاب غالين

أصل الحياة (التولد الذاتي)، ودراسة جديدة لردم جزء من هذه الفجوة

الفرق بين الحجة والادعاء والدليل، وما هي أنواع الدليل

هل يمكن نفي ما لا دليل عليه؟ إثبات الادعاء السلبي المبهم Proving a Negative

ما بين رهان باسكال ورهان أوريليوس يتم التفريق بين التاجر والإنسان.. بين الإيمان والأخلاق