الغشتالتية ونظرية الانبثاق تجيب عن ماهية الروح
كُتبت في: 17/02/2021
في مقال سابق ناقشت ماهية الروح وحاولت تحديد تاريخية وسبب ظهور هذه الأسطورة، وأقصد بأسطورة الروح هي أسطورة وجود شيء يُنفخ في الجسد فيعطيه الحياة ويُقبض منه فيموت وينتقل لما بعد الموت أو ينتقل بين الأجسام فهذا تم إسقاطه وإثبات عدم صحته علميًا بعد أن تبين أن حتى النطفة والبويضة تمتلك الحياة ولا يوجد وقت ينتقل فيه أي كائن من كونه غير حي إلى كونه حي.. وهنا انتقل البشر إلى محاولة عصرنة تعريف الروح مع الحفاظ على صيغتها الدينية باعتبار الروح هي شيء لا مادي روحاني يميز الكائن الحي عن الجماد.. وهذه الجزئية هي موضوع هذا الپوست...
إذًا هنالك ادعاء أن الروح هي ما يميز الكائن الحي عن الجماد؛ وإذا تناسينا أن هذا التعريف يلغي تمامًا المعنى الديني للروح المرتبط بالحياة والموت والبعث والحساب والتدخل الإلهي (ولتجنب إحراج أي من مدعي هذا الادعاء لعدم قدرتهم على إثبات أي مما سبق) فلن نناقش ما سبق بل سنركز على هل فعلًا هناك عامل سري لا مادي يميز الكائن الحي عن الجماد؟
في الحقيقة الجواب هو (نعم ولا) فهنالك عامل يميز الكائن الحي عن الجماد ولكنه ليس سري وليس روحاني وليس لا مادي وبالتأكيد ليس هو الروح...
سبق وتحدثنا أن الأشياء المادية ليست فقط الأشياء الملموسة فهنالك أشياء مادية فيزيائية ملموسة كالأجسام الصلبة والسائلة والغازية وغيرها، وأشياء مادية فيزيائية غير ملموسة كالصوت والكهرباء، وأشياء مادية غير فيزيائية كالأمور المرتبطة بالنفس ولكن جميعها يمكن دراستها وجميعها عبارة عن أشياء مادية فيزيائية، أو ناتجة عن أشياء مادية فيزيائية كالصوت الناتج عن الاهتزازات، أو أشياء مادية ناتجة عن تفاعل الأشياء المادية الفيزيائية وهنا مربط الفرس، وهنا مكمن ما يسميه البعض الروح...
حسب مبدأ النظرية الغشتالتية Gestalt Theory أو النظرية الشكلية (حيث أن Gestalt كلمة ألمانية تعني الصورة أو الشكل، ويعد من أهم روادها ماكس ڤيرتهايمر Max Wertheimer وڤولفغانغ كوهلر Wolfgang Köhler وكورت كوفكا urt Koffka) فإن "الكل أكبر من مجموع الأجزاء التي تكونه، وأن أداء الكل أعلى من أداء الأجزاء" (وهنا أتحدث عن المبدأ الأساسي لهذه النظرية دون الدخول بتطبيقاتها ومبادئها وهل أوافق على صحتها كلها أو لا)..
وحسب نظرية الانبثاق Emergence theory فإن مجموعة من المكونات البسيطة يمكن أن تشكل مكون آخر ونمط جديد يمتلك صفات ووظائف لا تمتلكها هذه المكونات أي أن وجود هذه المكونات معًا وتفاعلها مع بعضها قد يكسب النظام المتكون صفات وظيفية. أي ببساطة لا يمكن أن تعرف الشيء بأجزائه فقط فوجود هذه الأجزاء مع بعضها البعض هو جزءٌ من الكل أيضًا وهذا الجزء هو تفاعل هذه الأشياء مع بعضها، وهذا الشيء ينطبق على كل ما تتخيله في مجالات الحياة ونستطيع ذكر عدد لا نهائي من الأمثلة وسأذكر بعضها؛ ولكن قبل ذكر بعضها أود أن أذكر وجود مغالطتين منطقيتين تأخذان هذه النقطة بعين الاعتبار وهما مغالطة التركيب Fallacy of composition ومغالطة التفكيك Fallacy of Division فالأولى تعتبر أنه من الخطأ المنطقي اعتبار أن الكل يحمل نفس صفات أجزائه فمثلًا كأن نعتبر أن كون الحائط مكون من حجار كلسية فالحائط هو حجر كلسي، والثانية تعتبر أنه من الخطأ المنطقي اعتبار أن الأجزاء تحمل نفس صفات الكل كأن نعتبر أن الطائرة تطير إذًا كل جزء من أجزائها يطير إذا كان لوحده.. قد يبدو هذا بسيطًا لكنه في الحقيقة ليس بسيط إذا طبقناه على أمثلة أكثر تعقيدًا، فمثلًا إذا قامت مجموعة ما بالتصويت لشخص ما فهذا لا يعني بالضرورة أن كل فرد في هذه الجماعة قد صوت له بل الأغلبية منهت، أي أن هذا الشخص تم التصويت له من قبل هذا المجتمع أو الجماعة ولكن ليس بالضرورة من قبل كل فرد منها.. وعلى هذا قِس...
نعود إلى علاقة ما تحدثنا عنه بالروح... لتوضيح الأمر أعطي أمثلة:
- جزيء الماء مكون من ذرة أوكسجين وذرتي هيدروجين ولكن إذا وضعت ذرة أوكسجين وذرتي هيدروجين مع بعض لكن بشكل منفصل فلن يكون لهم مواصفات الماء إذًا فالماء مكون من (ذرة أوكسجين وذرتي هيدروجين وتفاعلهم مع بعضهم).
- الكلمة مكونة من مجموعة حروف ولكن لفظ كل حرف منفصل لن يعطي معنى الكلمة، بل المعنى يتكون من لفظهم معًا.
- أي شكل (مربع، مثلث، مستطيل) مكون من مجموعة خطوط أو نقاط، وجودهم منفصلين لن يعطي صفات الشكل.
- حوض السمك مكون من أربع جدران وقاعدة ولاصق.. وجودهم مع بعض بشكل منفصل لن يستطيع احتواء الماء.
- المنزل مكون من حجارة وأخشاب وحديد وأثاث واسمنت وتمديدات والعديد من العوامل، لكن إذا وضعتهم مع بعضهم بشكل منفصل لن يحلّوا مكان المنزل إذًا المنزل مكون منهم ومن تفاعلهم مع بعضهم.
- المجتمع مكون من أفراد مختلفين لكل منهم فكره وتصرفاته والتي إذا جمعتها مع بعضها بأي طريقة كانت (كأن تأخذ المتوسط أو أي شيء من هذا القبيل) فلن تحصل على نفس مواصفات المجتمع فالمجتمع هو عبارة عن توجهات هؤلاء الأفراد أثناء وجودهم وتفاعلهم مع بعضهم ضمن نطاق وشروط وظروف المجتمع.. فقد يكون الأفراد كأفراد متسامحين ولكن وجودهم مع بعضهم يجعلهم متعصبين أو العكس أي من السهل أو تتكون جماعة متعصبة من أفراد وسطيين أو جماعة متسامحة من أفراد وسطيين، فتأثير تفاعل الأفراد والظروف لا يقل أهمية عن تأثير الأفراد..
- السيارة أو الطيارة أو أي آلية تتكون من أجزائها لكن وجود أجزائها منفصلة لن يحقق وجود الدارة الكهربائية ودارة الماء والهواء والوقود أي أن السيارة أكثر من أجزائها.
- الكون: لا يمكن أن نعتبر أن ما ينطبق على أجزاء الكون هو بالضرورة ينطبق على الكون وهذا ما ذكرته حول أن السببية هي استقرائية وتنطبق (حتى الآن) على ما داخل الكون، لكن الكون ككل قد يكون شيء مختلف تمامًا عن أجزائه ويتميز بصفات لا تملكها أجزاؤه وهذا أمر منطقي بشكل كامل.
- الإنسان أو الكائن الحي: مكون من أجزاء ومركبات ومواد عضوية ولكن لا يمكن أن تأخذ ما ينطبق على هذه الأجزاء وتقول أنه ينطبق على الإنسان أو العكس.. وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه دعاة فكرة أن التطور يخالف التيرموديناميك والأنتروبية والذي تحدثت عنه سابقًا.. لذا فإن الإنسان أو الكائن الحي لا يحتاج عامل سري ليجمع هذه الأجزاء ويعطيها الحياة أو يخلق عندها جانبًا نفسيًا بل ما يحقق هذا هو تفاعل هذه الأشياء مع بعضها.. فالتفاعل بين الأجزاء هو الجزء المفقود الذي بجمعه مع الأشياء يشكل الكل.. إذًا الجواب هو التفاعل وليس الروح...
من درس أو قام بأي تحاليل إحصائية لأي تجربة يعلم أنه يتم دراسة المتغيرات المستقلة independent variables والمتغيرات المرتبطة (التابعة) dependent variables والتفاعل بين كل متغير والمتغيرات الأخرى والتفاعل بين كل المتغيرات والذي يسمى تأثيرات التفاعل Interaction Effects والذي يعتبر عاملًا لا يقل أهمية عن باقي العوامل..
إذًا كملخص: الروح غير موجودة وإن أردت أن تسمي شيئًا ما "روح" للحفاظ على المصطلح فهي ليست شيئًا أسطوريًا لا ماديًا بل هي شيء مادي بحت، فـ"روحنا" هي تفاعل أجزائنا مع بعضها البعض لتعطي الكل الذي هو أكبر من اجتماع أجزائه.. يعني وجود أجزاءنا مع بعضها بيعطي تفاعلات كيميائية وبيولوجية ونفسية واجتماعية ومعرفية ما بتتشكل إلا بتفاعل الأجزاء مع بعضها واللي هيي كمان بتصير جزء يضاف لهي الأجزاء.
Comments
Post a Comment