ماهيّة الروح؟

 


كُتبت في: 11/12/2020

ماهية الروح، سؤال يخطر على بال أغلب البشر لكن شخصيًا تبلور هذا السؤال عندي عندما كنت في السنة الجامعية الثالثة أي منذ حوالي 15 عامًا، وقتها كان عندنا مادة تسمى (الثيرموديناميك الحراري) والعديد من أصدقائي القدامى يعلمون من كان دكتور هذه المادة (أفضّل عدم ذكر الاسم ولو حتى بالتعليقات)، كان دكتور متمكن في اختصاصه ويعتبر من أصعب الدكاترة وأذكر أن تخصصه كان في الإنتروبية Entropy وكعادته سأل الطلاب الآتي: "في المحاضرة القادمة أريدكم أن تسألوني أي سؤال في ضمن مواضيع المادة من ترموديناميك وانتقال حرارة وإن لم أعرف الإجابة فصاحب السؤال سيأخذ علامة مميزة في عملي المادة".. أذكر يومها رجعت إلى غرفتي في المدينة الجامعية واعتكفت أفكر بسؤال لن يعرفه الدكتور في اختصاصه، فكرت وفكرت وبعدها لمعت براسي فكرة اعتبرتها أذكى فكرة طلعت براسي وقتها واستحضرت "روح" الحجي أرخميدس وصرخت Eureka!
ذهبت في الأسبوع اللاحق في محاضرة التيرمو وجلست منتظرًا أن يتذكر الدكتور طلبه وفعًلا في نهاية المحاضرة وبعد ما قطعت الأمل من أن الدكتور سيتذكر كلامه، جلس الدكتور كعادته أول مقعد وأعاد طلبه وعندها كنت الوحيد الذي رفع يده.. ابتسم وقال لي تفضل يا ابني...
بدأت ممهدّا كالآتي (واعذروا عدم الدقة العلمية الكبيرة في طرح السؤال في ذلك الوقت فالمصيبة ليست هنا) قلت له: أليس كل مكونات الجسم مادة أو طاقة؟ قال لي أكمل، فقلت والمادة لها أشكال صلبة وسائلة وغازية، والطاقة لها أنواع، وعند انتقالها من منظومة إلى منظومة تنتقل على شكل حرارة أو عمل.. قال لي أكمل.. هنا لمعت عينيّ بخبث وسألته: إذًا ماذا عن الروح؟ الروح مكون من مكونات جسم الإنسان تدخل فيه فيحيا وتُقبض منه فيموت وتنتقل بعد الموت حاملةً معها مكون من مكونات الإنسان؟ هل هي مادة أم طاقة؟ وإن كانت مادة فهل هي غازية أم صلبة أم سائلة، وإن كانت طاقة فما نوعها حرارية أو حركية أو غيرها وعند انتقالها من منظومة جسم الإنسان أو دخولها إليه فهل يتم الانتقال على شكل حرارة أم عمل... هنا صمت الدكتور وابتسم وقال لي ما اسمك، فقلت له بكل فخر "حسن عيسى" انتهت المحاضرة ووصلتني التهاني من الحضور وخرجت ويملؤني الفخر وأخدت علامة ممتازة بالعملي... لا أعرف ما سبب عدم رد الدكتور من الممكن أن يكون الجواب الذي عنده هو شبيه بالجواب الذي عندي حاليًا وليس مناسب لاستخدامه وقتها لأنه سيفتح سيل عارم من الأسئلة والنقاشات غير المناسبة، ولكن ما أعلمه أن السؤال بعد أن سألته لم يخرج من رأسي وقمت ببحث طويل لأصل لإجابته ووصلت لإجابة وجدتها مقنعة لي حتى الآن ولكنها أشعرتني بالخجل من تلك اللحظة التي ارتكبت فيها مغالطة منطقية عظيمة وهي مغالطة الفرض الخاطئ Argument from false premises وهي أن تبني كل نقاشك على فرض أنت افترضته دون برهان وعلى أساسه أثبتت حجتك، وهذا ما فعلت وقتها حين ابتدأت سؤالي بقولي "إذًا ماذا عن الروح؟ الروح مكون من مكونات جسم الإنسان تدخل فيه فيحيا وتُقبض منه فيموت وتنتقل بعد الموت حاملةً معها مكون من مكونات الإنسان؟".. الجواب هنا بسيط وهو أنه قبل أن أكمل سؤالي عن الروح كان يجب أن يتم إيقافي وسؤالي "من قال لك أنها مكون من مكونات الجسم؟ ما دليلك على هذا الافتراض؟" فما ارتكبته أنا هنا شبيه بأن أقول لك "الحصان يطير.. لكن الحصان لا يملك أجنحة إذًا يمكن للحيوانات أن تطير دون أجنحة" من قال لك أن الحصان يطير أين دليلك.. أو أن أقول لك، في هذه العلبة المغلقة ألف دولار، إذا أعطيت أخاك منها 500 دولار سيتبقى لديك 500 دولار تعيدها إلي، وقع على هذا.. هل ستوقع قبل أن تطلب مني فتح العلبة وإثبات أنها تحتوي حقًا على ألف دولار، إن كنت ستقبل دون برهان صدقني سينصب عليك بسهولة.. طبعًا ارتكابي لمغالطات سابقًا يساعدني حاليًا على تقبل فكرة ارتكاب الآخرين لهذه المغالطات وأحاول شرحها دون السخرية من الشخص فأنا كنت مكان هذا الشخص يومًا ما..

وهنا بدأت بالبحث في السؤال الحقيقي؟ ما هي الروح وهل هي مكون حقيقي من مكونات الجسم؟ والكلام هنا هو عن الروح حسب الطرح الديني مكون يعطي الحياة بنفخه في الجسم وينهي الجياة بقبضه منها وينتقل من الجسم دون أن يفنى معه إما إلى جسم آخر أو إلى مكان آخر، بعيدًا عن التفاسير التي تحاول إعطاءها معاني حديثة لأن هذه التفاسير اعتراف صارخ بسقوط هذا المكون الروحاني وتحوله لمكون مادي أو نفسي وبالتالي سقوط أحد أهم الأسرار التي تجمع عليها الأديان.. فيمكنك تسمية الدم بالروح أو العقل بالروح أو الشخصية بالروح أو العلم وهذا يعود إليك ولكنك بهذه الطريقة تثبت بشكل غير مباشر أن الأديان كانت مخطئة لأن كل هذه الأشياء لا تحقق شروط الروح بالاعتقاد الديني (مكون لا مادي ولا ناتج عن مكون مادي- كان قبل جسد الإنسان وسيبقى بعده- ينفخ في الجسد فيعطيه الحياة- يقبض منه عند الموت- ينتقل) فكل ما سبق لا ينطبق على الروح ومع ذلك سأناقشه وأرد عليه... وإن قلت هي شيء غير مكتشف وقد يكتشفه العلم فأنت هنا أمام مشكلتين: الأولى لماذا عليّ أن أقبل بوجود شيء لا دليل عليه ولا أثر له، فأنا معك أننا لا نملك دليل على كل شيء لكن في المقابل لا بد أن له أثر وإما لا معنى له، وحتى إن أردنا أن نقبله من مبدأ ممكن يكون موجودة فهذه مغالطة التوسل بالمجهول Appeal to ignorance ويمكن أن أستخدمها ضدك وأقول لك أن جسم الإنسان فيه قوة نيزكية وضعها كائن هيولي فضائي في الجسم لتعطيه الحياة ولكن لا دليل عليها ولا أثر لها، فهل ستقبل بأنها موجودة حقًا من نفس المبدأ، تخيل إذا قبلت أن هنالك عدد لا نهائي من الطروحات يجب أن تقبلها...

والآن نعود إلى الروح..
ما يميز الإنسان عن باقي الحيوانات ليس الوعي أو الإدراك فهنالك حيوانات واعية ومدركة لواقعها وتقوم بعمليات فكرية بدائية وبسيطة ولكن من باب الوعي أو الإدراك الغريزي التفاعلي مع المحيط أما الإنسان فيتميز بالوعي والإدراك التحليلي والسؤال والبحث في ماهية الأشياء، ومنذ العصور القديمة كان الإنسان يسأل عن أسباب وماهية الأشياء ولكن المعرفة لم تكن هدف بل حاجة ووسيلة، ففي ذلك الوقت كان الإنسان يرغب بالمعرفة لإشباع رغبة الفضول لديه وإيقاف السؤال الذي يعنّ في باله وليس للمعرفة بحد ذاتها لذلك لم يكن مهتمًا بأن يكون الجواب صحيحًا بالضرورة ولم يكن يملك الفكر التحليلي المتطور للتأكد من الصحة أو الخطأ ولكن هذا كان ضرورة فالفكر التحليلي يأتي بالتدريج انطلاقًا من السؤال وآلية التفكير البدائية، وبسبب هذا كان الإنسان يخترع أجوبة بسيطة سهلة تقلل حجم الفراغات المعرفية عنده أو ما يسمى أجوبة الفراغات أو (إله الفراغات) وهي شبيهة بطريقة تحليل الأطفال لمشاهداتهم والتي تحدثت عنها في پوست سابق موجود في التعليق الثاني، فمثًلا كان يرى الإنسان أمواج البحر تتقدم بظاهرة المد والجزر ولأن عنده فراغ معرفي حولها قام بدفع الماء بيده فوجد أنه تحرك على شكل موجة صغيرة فاعتقد أن حركة الأمواج وراءها رجل أيضًا لكنه أقوى منه جدًا فاعتبره إله البحر واعتبر أنه موجود في وسط البحر أو على الشاطئ المقابل، اخترع بعدها السفن وأبحر في البحر فاكتشف أنه لا يوجد هناك وهنا زادت دائرة معارفه وقلت فجوة الجهل فاعتبر أن إله البحر لابد أنه في عمق البحر، وكذلك اعتبر باقي الآلهة موجودين على الجبال مثلًا وعند التقدم الفكري والمعرفي اعتبرهم على السحاب ومن ثم في السماء وبعد اكتشاف عدم وجود ما يسمى سماء تحول إلى الفضاء وبعدها خارج الكون وهكذا أي محاولة للحفاظ على الفكرة مع نقلها إلى مكان غير معروف يعد اعتمادًا على مغالطتين (التوسل بالمجهول: أنت لا تعرف ذلك المكان بالتالي قد يكون هنالك) و(عبء الإثبات: أثبت أنه ليس هنالك) وهذا المكان يسمى فجوة الجهل التي تضيق وتبتعد كلما زاد العلم.. والروح كذلك...

عانى الإنسان البدائي من ثلاثة مشاكل أو أسئلة: مشكلة سؤال الفرق بين الحي والجامد: لماذا هنالك أشياء حية تتحرك وتتفاعل وأشياء جامدة لا تتحرك ولا تتفاعل؟ ومشكلة سؤال الوجود: ما الهدف من وجودي وكيف تم تمييزي بهذا الوجود؟ ومشكلة حب الخلود: هل حقًا سأفنى كأني لم أكن بعد موتي؟ وكان الجواب المريح في ذلك الوقت هو واحد "الروح" وكالعادة تم وضع هذه الروح في ثلاثة فجوات معرفية (فجوة ما قبل الحياة، وفجوة ما بعد الموت، وفجوة جسم الإنسان).. الفجوتين الأولى والثانية كانت فجوتين ميتافيزيقتين ضمنا استمرار فكرة الروح فمهما تطور الإنسان لن يستطيع أن يدرس أو يحلل مرحلة ما قبل الحياة ومرحلة ما بعد الموت، لكن ما دمر مصطلح الروح كان الفجوة الثالثة وهي جسم الإنسان والذي كان مجهولًا للإنسان البدائي لكنه أصبح معلومًا للإنسان حاليًا ووضع الروح في مأزق.. وللخروج من هذا المأزق اعتمد البشر على حلين: إما تفسير بعض ظواهر جسم الإنسان على أنها الروح وهنا وقعوا في مشكلة مخالفة مواصفات الروح التي ذكرتها سابقًا، أو اعتماد الفجوتين السابقتين ما قبل الحياة وما بعد الموت وهنا ارتكبوا المغالطة التي ارتكبتها أنا عندما سألت سؤالي لدكتور التيرمو لأنهم في الأساس فرضوا وجود حياة ما قبل الحياة وحياة ما بعد الموت دون أن يثبتوا هذا الفرض وما هو غير مثبت لا يمكن استخدامه لإثبات أي شيء كما شرحت سابقًا...

إذًا، من أين أتت فكرة الروح؟ الجميل عند دراسة تطور فكر الإنسان أن البشر يسألون نفس الأسئلة ولكن أجوبتهم تختلف ويظهر هذا الاختلاف جليًا باختلاف المناطق الجغرافية ويقل الاختلاف كلما زاد احتمال التواصل.. لذا نجد أن البشر القريبين من بعضهم جغرافيًا يتشاركون نفس الأجوبة لأنهم يتبنونها من بعضهم وينقلونها عن بعض وهذا التأثير طبعًا أصبح أقل مع تقدم الحضارة بسبب أن العامل الجغرافي لم يعد مهمًا جدًا في نقل المعلومة، لكن سابقًا كان هذا العامل مهمًا جدًا ومنه نفهم تشابه عادات الحياة والأكل واللغات والتفكير عند الشعوب المتقاربة واختلافها عند الشعوب المتباعدة لأن اللغة والعادات هي إجابات لأسئلة البشر، فالصينيين واليابانيين والكوريين يتشابهون بطرق الأكل وشكل اللغة وغيرها ويختلفون عن شعوب الشرق الأوسط التي تتشابه فيما بينها وكذلك شعوب الهند وهكذا.. والجواب حول الروح انبثق من مصدرٍ واحدٍ هو الإنسان البدائي لكن كفكرة غير متبلورة ومع تقدم الإنسان أصبح الجواب غير كافٍ وخلق أسئلة ولا بد من تفسيرها وإجابتها وهنا اختلف تفسير الروح وانقسم إلى عدة تفاسير تدور في جوابين رئيسيين نشأا في منطقتين مختلفتين ثم تم توزيعهما على باقي العالم بطريقة يمكن متابعتها تاريخيًا بسهولة مقبولة، وطبعًا كما انقسم جواب الروح إلى تفسيرين انقسمت هذه التفاسير إلى تفاسير وشروح مع كل تطور واقتباس وانقسام فكري مطورًا بذلك مفهوم الروح فكل شعب أو مجموعة تتبنى ما يعجبها مما سبق وتخلق أسئلة جديدة حوله وتشرحها بطريقة تشبع فضولها...

أما التفسيرين الرئيسيين الذين تحدثت عنهما فكانا تفسير المصريين القدماء (ما نسميهم خطأً بالفراعنة) وهو أن الروح هي شيء أسمى من الإنسان ينفخه إله في جسم الإنسان فيعطيه الحياة وعند الموت ينتقل إلى عالم الأموات، والموكل بمهمة نفخ الروح كان الإله "خنوم" Khnum Chnum, Knum, Khnemu خالق وصانع الفخّار ونافخ الروح فيه؛ وهو إله يصنع البشر مستخدمًا صلصال من طمي النيل على عجلة الفخّار وينفخ فيهم الروح، وكان يصوّر على شكل رجل برأس كبش، ولفظ كبش بالمصرية القديمة bA "با" وهو مطابق للفظ روح "با".. انتقلت هذه الفكرة لأديان المنطقة (فخار، طمي، صلصال، نفخ روح، كبش (الفداء المفضل)، روح) أظن جميعها تذكركم بأشياء لطيفة...
أما التفسير الثاني كان التفسير الهندي الذي شكل أساس الديانات الهندية القديمة وهو أن الروح هي الأساس وأن الأجساد عبارة عن قمصان مادية تتلبسها الروح وتتقمصها في دورة حياتها للوصول إلى الخلود والاندماج مع الإله المرسل لها.. وهذا التفسير يشكل أساس الأديان الهندية والآسيوية كالهندوسية والبوذية وهي أساسها لأنهم تطوروا عنها في تلك المنطقة وإن كان تأثيره على الأديان المتوسطية والغربية الحالية أقل بسبب البعد الجغرافي إلا أن نقل الإغريق له ساهم في تأثيره على أديان المنطقة المتوسطية والغربية، حيث شاب الديانات المتوسطية التي اعتمدت علة دمج معتقدات المصريين القدماء مع معتقدات بلاد ما بين النهرين ويمكنكم ملاحظة ذلك بشكل خجول في فكرة الاندماج مع الإله عند بعض الأديان وفكرة تلبس وتقمص الجن للأجساد وبشكل أوضح عند بعض الطوائف التي تأثرت بالفلسفة الإغريقية واعتقدت بالتقمص...

تطورت مفاهيم الروح مع تطور البشر والأسئلة وبدأت طروح مثل الفرق بين الروح والنَفْس، وأن النَفْس هي الذات والروح هي سبب تحول الجسم من جامد لحي، وهنا خلقت مشكلة هل للحيوانات والنباتات روح وكان لابد أن يكون لها روح فهي حيّة رغم اعتبار بعض الديانات للبذور والبيض جمادات وأشياء ميتة يخلق منها الحي وهذا خاطئ علميًا، وهنا نشأت فكرة أن روح الإنسان هي روح إرادة ووعي وحياة وروح الحيوان روح حياة فقط ولذلك عند الانتقال فما يحاسب هو روح الإرادة والوعي لذا لا تحاسب الحيوانات والنباتات... والكثير الكثير إن أردت التفصيل بها لكان عليّ أن أكتب كتابًا...

إذًا هذه هي أصول فكرة الروح، والآن وعلى الرغم من الإطالة إلا أنني مضطر للرد على الدفاعات عن فكرة الروح في العصر الحالي...
لن أرد على من يعتمد في إثباته للروح على فجوتي ما قبل الحياة وما بعد الموت لسبب بسيط وهو أن ادعاءه معتمد على مغالطة الفرض الخاطئ ولا يمكن نقاش شيء بني على شيء خاطئ غير مثبت وقد شرحتها أعلاه.. لكن سأرد على من يعتمد على فجوة جسم الإنسان التي لم تعد فجوة وهذا برأيي ما دمر فكرة الروح.. جهلك يا عزيزي بجسم الإنسان ليس مبررًا لإطلاق ادعاءات خاطئة.. جسم الإنسان هو مكون مادي بحت والشيء المادي ليس فقط ما يمكنك الشعور به بحواسك بل أيضًا ما يمكنك قياسه أو قياس أثره بإحدى طرق القياس الكمية أو الكيفية.. فالجسم مكون من جزء مادي بيولوجي وجزء مادي كيميائي وجزء مادي نفسي.. فالجزء النفسي هو نتاج الجزء البيوكيميائي ويتأثر ويؤثر به، شيء شبيه ببخار الماء بالنسبة للماء أو برطوبة الجو، لا تراه لكن تشعر به وتعرف أسبابه ونتائجه ويمكن التحكم به... ويمكن تشبيه جسم الإنسان بالسيارة بشكل بسيط، فالوقود المطلوب لتحريك السيارة هو الغذاء الذي يأكله الإنسان ومن ثم يفككه بحرقه مع الأوكسجين ليعطي ثاني أوكسيد كربون وماء وفضلات، شيء شبيه بما يفعله محرك السيارة (ونفس الطبيعة والتكوين العضوي حتى)؛ والكهرباء المطلوبة لتشغيل أضواء السيارة والمساحات وغيرها هي ببساطة السيالة العصبية وكهرباء الدماغ (ونفس الطبيعة والتكوين الشبيه بالكهرباء)، والسوائل الموجودة في السيارة التي تفرز وفق الأوامر من زيت وغيره شبيه بالمواد الكيميائية التي يفرزها الجسم كرد فعل على المؤثرات والأوامر من هرمونات وغيرها والتي تخلق حالة نفسية وعضوية فالحب مثًلا وبالرغم من معناه السامي عند البشر هو تطور سلوكي يضمن للإنسان الاستمرار عبر التقارب الاجتماعي للحماية وإيجاد الشريك للراحة النفسية أولًا المهمة لاستمرا الإنسان وكذلك للتكاثر ولو أننا وبسبب تطورنا الفكري أعطيناه معاني سامية أنا لست ضدها فحتى في السيارات نضيف أشياء جميلة ليست مهمة لعمل السيارة ولكنها تجعلها أهم وأفضل وأغلى... وإذا أردنا التوسع في الجانب النفسي فهو ببساطة ما تحويه هذه السيارة من سوفت ويرز...

قد يقول قائل لكن للسيارة مصمم إذًا للجسم مصمم.. الجواب ببساطة، للسيارة مصممين استخدموا العديد من العوامل المادية والتجارية لتطوير هذه السيارة وجسم الإنسان كذلك فعوامل الطبيعة هي مصممين جعلوه هكذا ولكن ليس فجأة، ففكرة أن الإنسان تم تشكيله كاملًا كقالب فخاري كما في الأسطورة المصرية أو كقميص مادي كما في الأسطورة الهندية ومن ثم نفخ فيه الروح فتحرك كمن يقول أن السيارة ظهرت فجأة ومن ثم تم تزويدها بالكهرباء والوقود فمشت... فقبل أن تستخدم الكهرباء في السيارة بدأت بناقل بسيط جدًا تم تجريب العديد من المواد وإقصاء ما هو ليس جيد أو ما هو ليس جيد كفاية واستخدام الجيد وتنقيته وتطويره بعملية اصطفاء وتعقيده أكثر عبر صنع بطارية صغيرة بدائية ثم تطويره حتى وصلنا لما وصلنا إليه الآن.. وكذلك استجابات الجسم كالبصر مثلًا بدأت بخلايا بدائية حساسة للضوء كيميائيًا أعطت الخلية فرصة للتأقلم مع المحيط أكثر من غيرها وتطورت إلى عصبونات ومن ثم تطورت أكثر عند العديد من الكائنات ذات السلف المشترك حتى أنها أكثر تطورًا عند بعض الحيوانات كالأخطبوط منها عند الإنسان، وعين اليعسوب ترى الأشعة فوق البنفسجية التي لا يراها الإنسان والنحل يشعر بالفرمونات ويتابعها كأنها طريق مرسوم يراه ويسلكه...

إذًا هل أي من هذه المكونات سواء الوعي أو الشعور أو المشاعر أو العمليات البيوكيميائية أو أي من هذه هو الروح التي تحقق الطرح الديني (مكون لا مادي ولا ناتج عن مكون مادي- كان قبل جسد الإنسان وسيبقى بعده- ينفخ في الجسد فيعطيه الحياة- يقبض منه عند الموت- ينتقل) الجواب لا...

ويسأل سائل إذا كان الجسم بهذه البساطة فهل يمكن التحكم بالحياة وضمان الخلود، الجواب نعم.. فالموت الطبيعي غير الناجم عن تخرب لعضو رئيسي هو موت ناجم عن الشيخوخة وعدم قدرة الخلايا على التجدد وإذا تم التغلب على هذه المشكلة عندها يمكن الوصول للخلود ونستطيع أن نرى كيف يزيد عمر الإنسان مع الوقت مع تطور العلم والشروط الصحية وليس كما تقول بعض المعتقدات أن البشر كانت أعمارهم بمئات وآلاف السنوات ومن ثم قصرت فالعلم يثبت العكس.. كما أن هنالك كائنات حية خالدة ما لم يتم افتراسها مثل أحد أنواع قناديل البحر يسمى Turritopsis doohmii  أو the immortal jellyfish قنديل البحر الخالد...

السؤال الآن: ما الخطأ في إعطاء مصطلح الروح تعريف جديد والحفاظ عليه؟ ببساطة هذا المصطلح باستخدامه الديني (وليس كاستخدامات روح الفريق وروح رياضية وغيرها) بل باستخدامه كمكون من مكونات الجسم يحمل معه عوالق فكرية بدائية تعتمد على فجوات فكرية تم تغطيتها والاحتفاظ به يحافظ على هذه العوالق وهو شبيه بالحفاظ على مصطلح "إله البحر أو إله النهر" بعد أن نكتشف السبب الحقيقي للمد والجزر أو للفيضان...

Comments

  1. تقول ”هل أي من هذه المكونات سواء الوعي أو الشعور أو المشاعر أو العمليات البيوكيميائية أو أي من هذه هو الروح التي تحقق الطرح الديني (مكون لا مادي ولا ناتج عن مكون مادي- كان قبل جسد الإنسان وسيبقى بعده- ينفخ في الجسد فيعطيه الحياة- يقبض منه عند الموت- ينتقل) الجواب لا...“
    نعم الوعي يحقق ذلك
    - الوعي ليس مادي وغير ناتج عن شيء مادي لا يوجد شيء يسمى ما كتلة الأفكار أو ما زخم الذكريات هذه أشياء غير مادية بطبيعتها ، وافتراض أن الوعي نتاج الدماغ افتراض فلسفي مادي لم يبرهن عليه أحد، والحجج على ذلك حجج غير مباشرة وضعيفة مثل لما يتأثر الدماغ الوعي يتأثر إذاً الوعي من الدماغ، إقرأرا هذه الورقة العلمية إن أردت لتعرف أن حجج الماديين على أن العقل من الدماغ ليست حججاً قوية
    https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0732118X17301903


    - نعم يوجد دليل أن الوعي لا يفنى حتى عندما يتوقف الدماغ عن العمل، هناك أبحاث حديثة يقوم بها طبيب اسمه سام بارنيا تؤكد إمكانية بقاء الوعي حتى بعد الموت الجسدي وتوقف الدماغ عن العمل وهذا اقتباس من ورقة علمية كتبها نفس الطبيب تقول بذلك.
    Although science has yet to discover the nature of human consciousness, overall, two broad mechanisms have been proposed to account for this phenomenon. It is thought that consciousness may be the product of either a “down-up” phenomenon, that is, consciousness or psyche (self or soul) is a by-product of brain cell activity—an epiphenomenon—arising from the coordinated activities of cerebral regions; or a “top-down” phenomenon, that is, consciousness is a separate entity that, while undiscovered by science today, is not produced by conventional brain cell activities and can itself independently modulate brain activity.88 While further studies are needed, the finding that the human mind, consciousness, or psyche (self) may continue to function when brain function has ceased during the early period after death has raised the possibility that the latter may have to be considered.

    https://nyaspubs.onlinelibrary.wiley.com/doi/full/10.1111/nyas.12582

    - بدون وعي لا حياة بالفعل، الحياة بالمفهوم الديني مختلفة عن معني الحياة بالمفهوم البيولوجي، انت تخلط بين مفهوم الدين عن الحياة ومفهوم البيولوجيا عن الحياة فتظن أن الحياة مسئولة عن الحياة بالمعني البيولوجي (أيض، تكاثر ...) وهذا ليس صحيحاً.

    ReplyDelete
  2. فتظن أن الروح* مسئولة عن الحياة

    ReplyDelete

Post a Comment

أكثر المقالات قراءة:

قراءة في "معجزة خلق الجنين" ما بين السردية الإسلامية وكتاب غالين

أصل الحياة (التولد الذاتي)، ودراسة جديدة لردم جزء من هذه الفجوة

الفرق بين الحجة والادعاء والدليل، وما هي أنواع الدليل

هل يمكن نفي ما لا دليل عليه؟ إثبات الادعاء السلبي المبهم Proving a Negative

ما بين رهان باسكال ورهان أوريليوس يتم التفريق بين التاجر والإنسان.. بين الإيمان والأخلاق