إنه معقد إذًا هو ما ورائي.. ذاكرة العفن الأصفر، ومغالطة التوسل بالتعقيد


كُتبت في: 20/08/2021

هل حقًا الوعي والعمليات العقلية هي شيء خارج المادة؟
هل حقًا تم تقديمها كـ"هدية" من قبل كائن ميتافيزيقي وهي شيء مميز للإنسان..
ألا يمكن أن تكون مجرد تطور طبيعي لعمليات بسيطة موجودة حتى عند كائنات بسيطة جدًا لا تملك حتى جهاز عصبي!!

منذ بداية وعي الإنسان وجد نفسه أمام الكثير من الأسئلة والفجوات المعرفية التي تحتاج إجابة؛ وفي محاولته لفهم الكون انطلق هذا الإنسان من فكرة مركزيته ومركزية ما يرتبط به كسلوكٍ تطوري ناجم عن غريزة النجاة عبر جعل نفسه الشيء الأساس والمركزي والمهم.. فاعتبر أن موطنه (الأرض) هو مركز الكون (أو ما كان يعرف بمجموعة السماوات والأرض والشمس والقمر والكواكب والنجوم المرئية من منظوره)، واعتبر أن هذه الأرض مسخرة له؛ وحتى عندما فكر في نفسه وجد أن أكثر شيءٍ غير مفهومٍ فيه هو الوعي وبالأخص الكواليا Qualia "وهي الشعور بالذاتية وفهم الأمور من منظور ذاتي"،  لابد أن يكون أمرًا خارج جسم الإنسان بل وخارج هذا العالم وأن يكون ناجمًا عن وعيٍ أكبر وأن هذا الوعي يسبق المادة...

أتى العلم وبدأ يحطم غرور الإنسان فأظهر جزءًا من الكون أزاح فيه مجموعتنا الشمسية عن تفردها ونقلها من كونها الكون إلى مجرد جزء مهمل لصغره في هذا الكون؛ وأزاح الأرض عن مركزيتها ونقلها من كونها المركز الثابت الذي تدور حوله الشمس والكواكب، إلى مجرد كوكب يدور مع غيره ممن يدور؛ وأزاح الإنسان عن عرشه على أن هذا الكون مسخر له إلى كونه مجرد كائنٍ ناتجٍ كغيره من الكائنات؛ وأزاح الوعي من كونه موجد المادة إلى كونه ناتجًا وصيرورةً لهذه المادة..
البعض لم يتقبل هذه الفكرة وانقسموا إلى أقسام، منهم من تمسك بأفكاره القديمة ضاربًا بالعلم عرض الحائط متمسكًا بمركزية الأرض والإنسان والوعي، بينما البعض تخلى عن مركزية الأرض وتمسك بمركزية الإنسان والوعي، والبعض الآخر تخلى عن مركزية الأرض والإنسان وتمسك بمركزية الوعي.. والكل يعتمد على مغالطاتٍ منطقية أهمها: مغالطة التوسل بالجهل Appeal to ignorance مستغلًا جهلنا في إجابة بعض الأسئلة المتعلقة بالوعي ونشوء الحياة؛ ومغالطة التوسل بالتعقيد Appeal to complexity والتي تقوم على أن كونك لا تفهم الشيء أو لكون الشيء معقد، فلا بد أن تفسيرك له ليس صحيحًا أو غير محتمل، أو يجب أن تكون الحجة معيبة. 

المثير في الموضوع أن العلم وبأسلوبه الاختزالي في تفكيك الأمور المعقدة لفهمها وبلمساته الانبثاقية الحديثة (للاستماع إلى جلستي حول الانبثاق Emergence والاختزال Reductionism) استطاع إيضاح أن أعقد الأمور التي تشغل الإنسان وتظهر له أنها أمور سحرية أو ما ورائية أو هبات وعطايا من كائنات أسمى، ما هي إلا مجرد تطور طبيعي لصفات أبسط موجودة عند كائنات أبسط..

طبعًا من أشهر الأمثلة عن هذا الموضوع هو تطور العين من مجرد بروتينات حساسة للضوء شكلت مستقبلات ضوئية من حوالي 540 مليون سنة (ولمن يحب القراءة حول تطور العين يمكنكم قراءة هذا المقال من مجلة Nature بعنوان The evolution of eyes: major steps).

ولكن في مقالي هاد رح أتطرق لمثال ألطف وأكثر حساسية للبعض لأنه يتعلق بعملية دماغية "عقلية" لدى البشر وكيف أنها موجودة بشكل أبسط عند كائنات أبسط، والطريف بهذا الموضوع أن هذه الكائنات لا تملك دماغًا بل ولا تملك أي جهاز عصبي!

بعرفكم على العفن اللزج (الوحلي) الأصفر neon-yellow slime mold، وهو كائن أحادي الخلية، معروف باسم Physarum polycephalum، ينتمي إلى المجموعة التصنيفية Amoebozoa، وهي نفس مجموعة الأميبات Amoebas. يمكن أن يوجد كخلية صغيرة واحدة بنواة واحدة (مركز التحكم)، ويمكن أن تندمج عدة خلايا معًا لتشكيل خلية عملاقة واحدة بها العديد من النوى. يمكن أن تنمو هذه الخلايا المندمجة لتغطي مئات السنتيمترات المربعة في المنطقة.


عند اندماج هي الخلايا الضخمة تشكل مع بعضها شبكة معقدة من الأنابيب الداخلية؛ تتمدد وتنقبض هي الأنابيب بطريقة مشابهة للأوعية الدموية لدفع السوائل والمواد المغذية ضمن هاد التجمع اللي ما بيملك لا دماغ ولا جهاز عصبي. مجرد تفاعل بيوكيميائي ميكانيكي بين خلايا هي الشبكة..

أظهرت دراسة جديدة نُشرت في بشباط 2021 في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences، أن أقطار هي الأنابيب المتفرعة يمكنها ترميز المعلومات! مثل معلومات حول المكان اللي عثر فيه عفن الوحل مؤخرًا على الطعام. وبالرغم من غرابة هاد الشي بحكم أنو الذاكرة عنا وحسب التفكير العامي مرتبط بعمليات عقلية معقدة وبضرورة وجود جهاز عصبي إلا أن الحقيقة غير هيك، فبتفكيك تعقيد فكرة الذاكرة بنلاقيها أنها هيي مجرد ترميز للمعلومات بطريقة ما Encoding ومن ثم حفظ هي المعلومات بحيث يتم لاحقًا تفكيك هاد الترميز أو فك التشفير Decoding واستخلاص المعلومات منو، يعني كتابتك لشيء ما أو رسمك لحادثة ما أو تسجيلك كصوت أو صورة لحادثة ما، هوي نوع من أنواع الذاكرة؛ وعمليًا هاد اللي عملو هاد العفن، لأنو لما كان التجمع تبعو يعثر على الغذاء كان يعيد تنظيم شبكتو الأنبوبية بسرعة عبر توسيع بعض الأنابيب وتقليص بعضها الآخر، ولاحقًا هي البنية اللي تشكلت من هي العملية بيبقى في مكانها حتى بعد أن استهلاك الغذاء.

هي الآلية البسيطة من الذاكرة عند عفن الوحل ساعدتو في حل ألغاز معقدة، مثل العثور على أسرع طريق للطعام أو أقصر طريق عبر متاهة، متل ما صرحت كبيرة المؤلفين Karen Alim، الأستاذ المشارك في الفيزياء البيولوجية في الجامعة التقنية في.


حيث أنو لما يستشعر هاد العفن وجود وجبة خفيفة في مكان قريب، من خلال الكشف عن المواد الكيميائية اللي بيتركها الطعام، تبدأ الأنابيب الأقرب للطعام في التمدد، وفي الوقت نفسه تتقلص الأنابيب البعيدة عن الطعام وتختفي تمامًا في بعض الأحيان، ويعيد العفن امتصاص هي الأنابيب، ثم يزحف في اتجاه الأنابيب الواسعة المتوسعة وينتقل لحتى يبتلع وجبتو.


وحتى بعد الانتهاء من كل الغذاء بحافظ العفن على بنية وشكل للأنابيب الكبية اللي تشكلت تارك شي متل "البصمة" طويلة الأمد لمكان وجود الطعام وبكون شيء شبيه "بالذاكرة المطبوعة" imprinted memory واللي من خلال فك تشفيرها وقرائتها يمكن معرفة شو كانت سلوكيات هاد العفن.

ووضحت Alim أنو هاد الشي وبالرغم من بساطتو ظاهريًا إلا أنو شبيه بالذاكرة تبعنا، ففي الدماغ بنقوم بتخزين المعلومات عن طريق تقوية أو إضعاف الروابط بين الخلايا العصبية الفردية Individual Neurons، وهوي نوع من الخلايا العصبية التي ترسل إشارات كهربائية وكيميائية، وكل دفعة إضافية قد تعزز تقوية الارتباط؛ واللي قام فيه العفن هو عملية مماثلة لكنها مبسطة.

وأضافت أنو تمامًا مثل الاتصالات في الدماغ، يمكن أن تصبح "ذكريات" العفن اللزج أضعف إذا لم يتم تعزيزها. فبينما تزداد سماكة الأنابيب القريبة من الطعام، تصبح الأنابيب البعيدة عن الطعام أرق وقد تختفي. وبهي الطريقة، يمكن استبدال الذكريات القديمة للطعام لما بينتقل العفن من مكان لمكان تاني وبيبحث عن مغذيات جديدة، وهاد الشي شبيه تمامًا بذكرياتنا اللي بننساها مع الوقت في حال عدم التكرار وبيصير إعادة كتابة ذكريات تانية مكانها Overwriting Memory. وفي دراسات سابقة أشارت إلى أنو تجمعات العفن هي ممكن تكيف شبكاتها مع الإشارات الخارجية وأنه يمكن استخدام الشبكة وقراءتها لمعرفة ما مر فيه هاد العفن.

مثلًا بهي الصورة: صورة لعفن P. polycephalum plasmodium تظهر (A) تمدد العفن، (B) واجهة البحث عن الغذاء، (C) شبكة الأنابيب، (D) شبكة قديمة تظهر المكان اللي استكشفوا العفن سابقًا، (E) قرص الطعام اللي بيحتوي على المزرعة الأصلية للعفن. يعني ببساطة فيك تشوف ذاكرة العفن للعملية اللي مر فيها من نشوء وبحث سابق وبحث حالي واتجاه وغيرو.


أما آلية العمل وسبب التمدد والتوسع فشبهوه العلماء بشبكات درب النمل Ant’s trail networks، حيث يضع النمل اللي عم يبحث عن الطعام سلسلة من المواد الكيميائية (الفيرومونات Pheromones) ليتبعها النمل الآخر. ونظرًا لأن المزيد من النمل يتبع نفس المسار بيصير يترك المزيد من المواد الكيميائية، فمن المرجح أن يتبع المزيد من النمل الدرب الجديد نفسو، وفقًا لدراسة صدرت عام 2005 من مجلة The Royal Society.

واستنادًا للتجارب المعملية والنماذج الحاسوبية لهاد العفن، بيشتبه كتّاب الدراسة في أن العفن اللزج يينتج بعض المواد القابلة للذوبان عند استشعار الطعام وأن هذه المادة تجعل الأنابيب الأقرب للطعام تلين وتمدد. مع تمدد جدران الأنابيب الشبيهة بالهلام، تتسرب بعض المادة إلى الشبكة الأكبر للأنابيب وتصبح أكثر تخفيفًا كلما ابتعدت عن مسارها. لذلك، أوضح مؤلفو الدراسة أن الأنابيب البعيدة عن مصدر الغذاء تتلقى القليل جدًا من المادة، إن وجدت وبالتالي بتصير تتقلص وتختفي، لكن لحد الآن ما عنا فكرة عن التركيب الكيميائي لهي المواد لكن البحث مستمر.

ومتل مو شايفين فأي شيء معقد يصبح أبسط وأكثر منطقية لما يتم تفكيكو، بل وبيصير قابل للاستنساخ كمان واستخدامو بتطبيقات تانية لأن العلماء عم يفكروا يستخدموا هي الطريقة من الذاكرة الكيميائية البسيطة لبناء مواد ذكية بتحاكي شبكات التدفق الحية الموجودة في تجمعات عفن الوحل ويمكن استخدامها لبناء روبوتات ناعمة التركيب.

الأمور التي تبدو لنا معقدة يمكن التعامل معها بطريقتين: إما تفكيكها ودراستها ومحاولة فهمها وهنا سنجد أنها طبيعية بشكل تام وممكن نتحكم فيها ونستخدمها؛ أو نوقع بمغالطتي التوسل بالجهل والتوسل بالتعقيد ونعتبر هالشي المعقد ماورائي ومعمول بطريقة سحرية ميتافيزيقية ولا بد من وجود غاية منه ونعزيه لكائن ميتافيزيقي..

وبالآخر بترككم مع مقال سابق يوضح سبب ميل البشر للتفكير الغائي.

المصادر:





 

Comments

Post a Comment

أكثر المقالات قراءة:

قراءة في "معجزة خلق الجنين" ما بين السردية الإسلامية وكتاب غالين

أصل الحياة (التولد الذاتي)، ودراسة جديدة لردم جزء من هذه الفجوة

الفرق بين الحجة والادعاء والدليل، وما هي أنواع الدليل

هل يمكن نفي ما لا دليل عليه؟ إثبات الادعاء السلبي المبهم Proving a Negative

ما بين رهان باسكال ورهان أوريليوس يتم التفريق بين التاجر والإنسان.. بين الإيمان والأخلاق