أفرغ كأسك فمن غير الممكن ملء كأسٍ مملوءة...
كُتبت في 28/08/2020
إن أردتُ أن أفكر في وضع قائمة لأسباب مصائب مجتمعاتنا على كافة الأصعدة، سواء العلمية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، فسيحتل "التلقين" مكانةً مرموقةً على رأس هذه القائمة...
فالتلقين Indoctrination يعرف ببساطة على أنه:
"the process of teaching a person or group to accept a set of beliefs uncritically."
أي عملية تعليم شخص أو مجموعة قبول عدد من المعتقدات دون نقد أو تمحيص.
وللتلقين في مجتمعاتنا نصيب الأسد من كل شيء، ويمثل الممارسة الأولى التي يتعرض لها الطفل منذ ولادته كأهم أداة من أدوات الأدلجة وأسلوب من أساليب الاغتصاب الفكري للأطفال (مقال الأدلجة والاغتصاب الفكري للأطفال)...
فنحن في مجتمعات تعتمد الحفظ كمقياس للفهم وتحتفي بالحافظ لا بالسائل أو الفاهم أو المشكك أو المبتكر؛ دورات التحفيظ في كل مكان من التجمعات الدينية إلى التجمعات التلقينية والتي تسمى اصطلاحيًا مدارس وجامعات...
فعلى الصعيد الاجتماعي يتم تلقين الطفل عادات المجتمع كما هي دون أن يحق له السؤال أو التشكيك بها ويتم غسل دماغه بما يسمى قدسية العادات والتقاليد وأن من هو أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة وضرورة الإنصات للكبير وللأهل وكأن العمر شرط للمعرفة، وربط الاحترام بالطاعة فأنت يجب أن تحترم الكبير بطاعته وقبول ما يقول مع أنك قد تفوقه علمًا بأميال...
وعلى الصعيد السياسي يلقونك طاعة المنظومة وأولياء الأمور ابتداءً من المنزل وانتهاءً بالدولة، فهم يعلمون ما يقولون ويفعلون ويعرفون مصلحتك أكثر منك...
وعلى الصعيد الدراسي يلقونك المعلومات تلقينًا ويقيمون مستواك العلمي بمقدرتك على الحفظ لا على الفهم والتحليل والانتقاد، ويحشون رأسك بما هو كفيل لتحويلك إلى "ردّادة" تحفظ من الأرقام والجداول والمصطلحات ما يجعلها تقف جامدة إذا قدمت لها هذه الأرقام بترتيب مختلف أو قدمت لها هذه المصطلحات بتصريفٍ مختلف...
وعلى الصعيد الديني وهذا هو أصل التلقين ومولده، فإن شئنا أم أبينا فالدين يشكل أحد المصادر الرئيسية لكل ما سبق فمن لا يحكمه الدين في مجتمعاتنا حكمًا مباشرًا فعلى الأقل يؤثر عليه اجتماعيًا ويجعله بيئة خصبة لتحكم باقي النظم الفاسدة من إيديولوجياتٍ وغيرها، فالتلقين في الدين هو أساسه ومحوره ولولا التلقين لما بقي دينٌ على وجه الأرض.. وكل منا يعلم أهمية التلقين في جميع الأديان، فالطفل يلقن الدين مع حليب الأم ويضخ الإيمان في رأسه ضخًا، متلفًا كل مَلَكَاته الفكرية المرتبطة بالشك والتساؤل ليخلق منه لاحقًا مسخًا فكريًا مهما تقدم معرفيًا فهو لا يجرؤ على الشك بل يُسخّر معرفته لإقناع نفسه أكثر بمعتقداته لذا نرى العديد من "المتعلمين" من مختلف الأديان يناقشونك في كل شيء بمنتهى العلم والمنطقية وعندما يصلون إلى ما يمس معتقداتهم تكاد تسمع صوت الفرامل الأوتوماتيكية في أدمغتهم والتي تخرجهم خلال لحظات خارج منطقة العلم والمنطق التي كانوا يحاضرون بها...
كيف لا وجميع الأديان تطبق أسس التلقين بحذافيرها فهي وباختلافاتها تقدم النقل على العقل، وتعتبر الشك شيطانًا، والتمنطق تزندق، والمختلف عدوّ أو في أبسط الحالات هالك أزلي العذاب، وتسمي الحافظ عالم، والمردد فقيه، والملقن معلم...
يولد كلٌّ منا وعقله نقي ككأسٍ فارغة وواجب الأهل والمجتمع الحفاظ على نقاوة هذه الكأس وتعليم الطفل أصول المنطق والشك والتمحيص والتدقيق فيما يطرح أمامه ليختار منه ما يملأ هذا الكأس لاحقًا، لكن بدلًا عن هذا نجد أن الأهل بدافعٍ من الدين والمجتمع ولخوفهم (أو لوثوقهم) أن المنطق سيدفع هذا الطفل لملء كأسه بما يخالف عاداتهم ومعتقداتهم فإنهم يقومون بصب معتقداتهم وعاداتهم في كأس هذا الطفل حتى تمتلئ قبل أن يمتلك القدرة على الكلام وليس النقد حتى... أفكار متعفنة حامضية لزجة كالقطران تحفر عميقًا في جدران هذه الكأس لدرجة يصبح من الصعب جدًا بل ومن المؤلم جدًا التخلص منها، وحتى إن تخلصت منها فإن ندوبها تبقى على جدران هذا الكأس...
كؤوس ممتلئة في كل مكان تنأى تحت وطأة ما تحمله فتراها تفرغه في كل مكان، تحاول اكتساب المعرفة دون أن تجرب إفراغ نفسها ولو قليلًا.. فكيف لك مثلًا أن تتقبل فكرًا آخر يخالف فكرك إن كانت كأسك ممتلئة بفكرك وأنت لا تقبل أن ترفض أي منه أو تضع أيًا منه تحت مجهر الشك والاختبار.. كيف ستقبل مثًلا نظرياتٍ علمية أو أفكار منطقية أو أجوبة لأسئلة وكأسك ممتلئة فأفكار تخالف هذه النظريات وأجوبة معلبة جاهزة...
لنفكر قليلًا.. ماذا لو أفرغت كأسي؟ ماذا لو رفضت كل ما فيها ونظفتها ثم ذهبت وحاولت ملأها من جديد؟ سأتوجه بكأسي النظيفة إلى غرفة الملء وسأجد طاولتين على كلٍ منهما أوعية تحوي ما يمكن لي ملء كأسي به من جديد... إحداها مكتوب عليها (املأ كأسك من هذه الأوعية.. فما تحتويه مدققٌ ومفحوصٌ ومثبتٌ بالعلم والمنطق وتجاوز اختبارات النقد والتحليل ويدعو للإبداع).. والثانية مكتوبٌ عليها (املأ كأسك من هذه الأوعية.. فما تحتويه غير مدققٍ ولا مثبتٍ بالعلم والمنطق ولكنه مدعومٌ بالنقل والغيب ورأي الأهل والمجتمع).. اختر ما يحلو لك عندها واملأ كأسك كما تشاء، وإن وجدت ما كان في كأسك سابقًا في أحد الأوعية التي اخترتها فاملأ به كأسك مجددًا لا مانع... أترى؟ إن كان ما في كأسك الآن صحيحًا فلن تخسره، ولكن للأسف أنت متأكد أنك إذا نظفت كأسك فلن تملأها بما هو في رأسك الآن إلا إذا اخترت أوعية الطاولة الثانية والتي لن يختارها نظيفُ كأس...
هنالك مقولة صينية قديمة تقول "أفرغ كأسك حتى يمكن ملؤه Empty your cup so that it may be filled"..وأنا أقول لك، أفرغ كأسك واملأه من جديد فإن كان ما فيه يستحق وجوده في كأسك فستملأ به كأسك مجددًا، ولكن إن لم يكن فسيترك مكانه لما يستحق أن يكون بها.. أفرغ كأسك من كل شيء ونظفها جيدًا ثم انتقي ما تملؤها به بكل حذر وشك وتدقيق وتحليل وتمحيص وعلم وتفكير ومنطق.. وسترى كيف أن قطرانك سيتحول إلى طيب وعبق...
Comments
Post a Comment