هل الفطرة بمفهومها الديني شيء حقيقي أم سوء فهم من قبل الأديان للتطور السلوكي؟

 


كُتبت في: 13/03/2021

"الإنسان متدين بالفطرة"، "الإنسان يبحث عن الإله بالفطرة"، "الدين هو من فطرة الإنسان وحتى لو لم يلقن للطفل فسيبحث عنه لوحده عندما يكبر"، "ألم تسمع بقصة إبراهيم؟"، "ألم تقرأ حيّ بن يقظان؟"
جميعها عبارات لا بد أن تكونوا قد سمعتم إحداها على الأقل، فهل حقًا هنالك شيء يسمى الفطرة بمفهومها الديني؟

للأسف يحدث خلط كبير في المصطلحات بسبب اعتماد كلمات معينة كان لها معنى ما ومن ثم أثبت العلم عدم صحتها لكن لم يتم تصحيحها وهذا طبيعي ولكن في نفس الوقت يسبب حيزًا مهمًا لدعاة الأديان عامة ودعاة الإعجاز العلمي خاصة لخلط الأورق.. كما هو الحال في كلمة "ذرّة"، فكلمة "ذرّة" عند العرب (حسب التفاسير) كانت الشيء الصغير جدًا وعندما أرادوا تعريب كلمة Atom استخدموا كلمة موجودة وهي "ذرّة"، مما جعل دعاة الإعجاز العلمي يقولون أن الذرّة مذكورة في النصوص بالرغم من أنها لم تذكر بالمعنى الاصطلاحي لكلمة ذرّة.. كذلك الفطرة، حيث أنه لغويًا يوجد تداخل بين كلمتين هما الغريزة Instinct والفطرة innateness وهما كلمتان متداخلتان فالغريزة جزء من الفطرة.. أما ما يسمى بالفطرة الدينية Religious instinct فهي غير موجودة، لذا يجب التمييز بين المصطلحات قبل إكمال الحديث...

لغويًا فالفطرة innateness أو الغريزة instinct أو التصرف الفطري Innate behaviour تعرف كلها (خلط لغوي تم تصحيحه علميًا لاحقًا) على أنها سلوك ذو ارتباط وراثي في كائن ما ويمكن إجراؤه استجابةً لإشارات معينة ودون خبرات سابقة، أي هو التصرفات التي يقوم بها الكائن دون أي تدخل للاكتساب المعرفي سواء من المحيط أو الأهل أو تجاربه الشخصية؛ أما الفطرة بالمفهوم الديني Religious instinct فتذهب بعض الأديان إلى نسب الكثير من الأفعال للفطرة الدينية خاصة الدين الإسلامي وسنتحدث عنها، لكن بشكل عام تعرّف الفطرة الدينية على أنها طبيعة عند الإنسان تولد معه ولا علاقة لها بأي اكتساب معرفي تدفع الإنسان للبحث عن الإله أو عن الأديان،.. فهل هذا صحيح وموجود؟

الجواب طبعًا لا، فالفطرة بمفهومها الديني هي شيء غير موجود ونابع عن عدم فهم هذه الأديان للأفعال الغريزية والتصرفات السلوكية الفطرية وعدم قدرتهم على إيجاد تفسير حقيقي لها فقاموا كالعادة بنسب السبب إلى الغيبيات.. أما التفسير الحقيقي فقد جاء مع ما يسمى بدراسة السلوك التطوري Evolutionary behaviour كجزء من علم النفس التطوري Evolutionary psychology والذي باختصار إن أردنا تلخيصه نقول أن جميع الأحياء لديها ميول فطرية Innate Tendencies تنتج عنها أفعال وسلوكيات فطرية Innate behaviour بما فيها النباتات والبكتريا والحيوانات (بما فيها الإنسان) وهذه الميول الفطرية لا تتضمن أي فطرة دينية أبدًا بل تدور حول تحقيق الحاجات الأساسية الثلاث وهي Eat, Survive & reproduce أي الأكل والنجاة والتكاثر في سبيل استمرارية جينات النوع، ويمكن تقسيم هذه الميول الفطرية إلى عدة أنواع:

- الحاجة إلى الشيء Need: كحاجتك للطعام والشراب والراحة والنوم والجنس وغيرها، فهي ميول غريزية ذات منشأ تطوري لضمان (الأكل والنجاة والتكاثر) بحدودهم الدنيا.

- إرادة الحصول على الشيء Want: إرادة الحصول على كل ما يمكنك من الشيء حتى لو كان يفيض عن الحاجة (النوع الأول)، وهو ميل غريزي ذو منشأ تطوري لتحسين حالة (الأكل والنجاة والتكاثر) أعلى من حدودهم الدنيا وضمان وجود احتياطي يكفلهم. ونجده عند العديد من الحيوانات كالسناجب وغيرها..

- الدفع والحث Drive and Urge: وهي سلوك تطوري يدفعك للقيام بما تحتاجه وتريده (أي هو ما يدفعك لتلبي النوعين الأولين).

- الحافز أو الدافع Motive: وهوي ما يجمع الأفكار والحاجات والظروف ليدفعك بالقيام بعمل ما..

- الغرائز Instincts: وهي الميل الفطري للتصرف بشكل ما لتحقيق غرض ما. كالتصرفات الغريزية في بناء الأعشاش وخلايا النحل وهي أيضًا تفسر سلوكيًا حسب تطوير كل نوع تبعًا لظروفه لمفاهيم تحقيق الحاجات الأساسية الثلاث Eat, Survive & reproduce، أما ما يعتبر أنه شيء جمالي لا علاقة له بالأساسيات الثلاث كمن يدعي أن وجود خلايا النحل بشكل هندسي جميل لا يمكن أن يكون لتحقيق هذه الأساسيات الثلاث فأدعوه لقراءة بعض الأبحاث عن الموضوع وكيف أن الشكال والألوان حتى عند الطاووس لها دور في تحقيق هذه الحاجات الثلاث وأنه حتى مفهوم الجمال هو مفهوم ابتكره الإنسان من الإنسان لتلبيه هذه الحاجات الثلاث وسنتحدث عن هذا في پوست لاحق.

- ردود الفعل Reflexes: وهي الميل الفطري للتصرف بشكل ما كرد فعل عن ظرف ما. كردات الفعل عند الخوف مثلًا وردات الفعل هذه ذات تطور سلوكي كنت قد شرحته في پوست سابق حول تقييم المخاطر Risk Assessment (الپوست في التعليق الأول)، أو ردات الفعل الفيزيائية وهذه مدروسة بشكل كامل.

- المواقف Attitudes: وهي النزعة للتصرف بطبيعة ما اتجاه موقف معين وهي خليط من الميل الفطري والاكتساب المعرفي ويمكن أن تسمى بالدافع المكتسب (المتعلم) Learned motive.

بالتالي لا يوجد فيما ذكر أعلاه أي شيء يدل إلى فطرية السلوك الديني بل هو اكتساب معرفي لاحق لتلبية الحاجات الغريزية الثلاث Eat, Survive & reproduce وهو ليس واحد عند البشر كما يُدعى، بل هو إحدى المحاولات لخلق مجموعة ينتمي لها الفرد تشعره بالانتماء والحماية، وكذلك خلق شيء وهمي يشعره بالاستقرار النفسي ويقلل الخوف عند الشغور بوجود شيء خارق يحميه، ولذلك نجد أن الأديان لم تنشأ إلا بعد التطور الفكري للإنسان وبحثه في الأسئلة الوجودية (آخر 10000-15000 عام تقريبًا) وليس منذ ظهور النوع البشري كما هو مفترض إن كانت فعلًا ميل فطري حقيقي، ولنفس السبب نفهم وجود آلاف الأديان لأن العديد من البشر قبل التطور المعرفي كانوا يحاولون إيجاد هذه الحماية والاستقرار الوهمي فكانوا يخلقون أديان مختلفة إذًا الغرض وجود دين ما ومجموعة ما تحميهم وليس شيء فطري يدلهم على دين محدد أو إله محدد، وقد تحدثت سابقًا في مقال كيف أنه حتى الإيثار وحب الغير هو نوع من التطور السلوكي النابع عن الأنانية لتحقيق الحاجات الثلات (الپوست في التعليق الثاني)، ونفس الشيء ينطبق على الأخلاق والتي تسبق الأديان بكثير.

أما فيما يخص ما يدعى الفطرة الدينية Religious Instinct فقد قال عنها "سيغموند فرويد" أنها نابعة عن الضعف والعجز البشري كقوة أساسية وراء تأسيس الدين، وتحدث عنها "كارل يونغ" ضمن شرحه عن اللاوعي الجماعي collective unconscious، باعتباره بقايا مما تم تعلمه في تطور البشرية وماضي الأجداد، والذي يحتوي على الإمكانات الغريزية للإبداع بالإضافة إلى التراث الروحي للبشرية، والذي يملي علينا نحن الأحفاد هكذا سلوكيات دون وعي (لكن ليس بشكل غريزي بل مكتسب).

في النهاية سأترككم مع هذه القصة الحقيقية التي حدثت منذ أيام قليلة على تطبيق الـClubhouse حيث كنت أرد على نقطة عدم وجود ما يسمى فطرة دينية وأن ما يتحدثون عنه هو غريزة وجاء شيخ (وإعلامي مشهور) لن أذكر اسمه حتى لا أدخل في مغالطة الشخصنة، والذي أعرف أنه معتاد على أن يستمع له الناس كنا يستمعون لخطبة الجمعة دون نقاش مما جعل مكان مثل الـClubhouse غير مناسب له ففيه يقل عدد الأشخاص ممن يتبعون أسلوب السمع والطاعة والنقل مقدم على العقل، وبعد انتهائي من مداخلتي حدث الحوار الآتي:
- الشيخ: يبدو أن الأخ حسن في تعليقه حول عدم وجود فطرة (وهنا يتحدث عن الفطرة الدينية وسيتضح هذا لاحقًا) وتسميتها بالغريزة تكاسل في البحث فالغريزة والفطرة واحدة في القواميس.
- أنا: يا شيخ يبدو أنك لم تستمع جيدًا فأنا ذكرت أنني أتحدث عن الفطرة الدينية وليس الفطرة العادية وهي مختلفة عن الغريزة ولا توجد بشكل فطري.
- الشيخ: بل هي نفسها فالغريزة والفطرة واحدة، ومذكورة في الأديان وذكرت في قصة حي بن يقظان.
- أنا: الاستدلال بالدين لإثبات ديني هو دليل دائري، وحي بن يقظان رواية تخيلية ليست دليل على أي شيء سوى رأي الكاتب.. لكن اسمحلي أسألك سؤال..
- الشيخ: تفضل..
- أنا: أنت تقول أن الفطرة الدينية والغريزة شيء واحد، صح؟
- الشيخ: نعم صحيح
- أنا: ما هي الفطرة يا شيخ؟
- الشيخ (وانطلاقًا من مرجعيته الدينية): الفطرة هي ميل فطري للبحث عن الخالق ومعرفة الصواب من الخطأ، وقص الأظافر وحلق العانة (وكاد أن يكمل باقي الحديث المنقول عن عائشة وهو حديث "عشرة من الفطرة")
- أنا: ممتاز هالكلام، هل يمتلك الحيوانات فطرة يا شيخ؟
- الشيخ (بعد أن عرف المصيبة التي أوقع نفسه بها وهي إن قال نعم فهي مصيبة وإن قال لا فالمصيبة أكبر، لأنها ستعني أن الفطرة الدينية غير الغريزة فالغريزة يشترك فيها الإنسان والحيوان وعندها سيؤكد كلامي، فاختار أن يجاوب بنعم) وقال: نعم أنا أميل إلى أن للحيوانات فطرة..
- أنا: هل الحيوانات تقص الأظافر وتحلق شعر العانة وتبحث عن الإله؟
- الشيخ: كلا.
- أنا: ممتاز إذًا الغريزة هي غير الفطرة الدينية التي تتحدث عنها والفطرة الدينية لا علاقة لها بالميل الفطري بل هي شيء مكتسب..
- الشيخ: لكن الحيوانات تعرف الخطأ من الصواب..
- أنا: للأسف يا شيخ الكلام غير صحيح فهي تعرف الخطر من غير الخطر وليس الخطأ من الصواب..
- الشيخ: الخطر وغير الخطر هو الخطأ والصواب..
- أنا: الكلام مجددًا غير صحيح فقد يكون الشيء صواب لكن خطر..
- الشيخ: أساسًا أنا ما عم ناقشك عم ناقش الموديريتر..
- أنا: مجددًا أخطأت يا شيخ لأنك تناقشني فأنت ذكرت اسمي وقلت أني تكاسلت في البحث.
انتهى الحوار.. وتبين من المتكاسل في البحث..

طبعًا موضوع الخلط بين (الخطر وغير الخطر)، (الخطأ والصواب)، (الحلال، والحرام)، (الخير والشر) سأتطرق لهم في منشور لاحق..

في الختام، تشترك جميع الأحياء في ميول فطرية، وتشترك أغلب الحيوانات مع الإنسان في الإدراك (تمييز المحيط وإدراكه والتعامل معه)، وتشترك معه بالاكتساب المعرفي بشكل متفاوت الكمية والنوعية، ويتميز الإنسان بالإدراك التحليلي والذي لا يستخدمه الأغلبية.


Comments

  1. بقولك ايه يا صاحبي بعد جولة في مدونتك، انت شكلك من بتوع الشك المذهبي اللي هما السوفسطائيين يعني، كمان انت كل معرفتك مؤدلجه ومش فاهم الحجج الإيمانية صح وأغلب قرائتك لكتب ومقالات ملاحدة وماديين بس مش بتقرأ نقد ليهم ولا كلامهم من الطرف المعارض
    وبوستك دا مقال مفيش عالم بجد في علم النفس التطوري يجرؤ يقول إنه خلاص فسرنا الدين بأنه مجرد مكيف للمساعدة في النجاة والتكاثر
    https://riojournal.com/article/66132/

    ReplyDelete

Post a Comment

أكثر المقالات قراءة:

قراءة في "معجزة خلق الجنين" ما بين السردية الإسلامية وكتاب غالين

أصل الحياة (التولد الذاتي)، ودراسة جديدة لردم جزء من هذه الفجوة

الفرق بين الحجة والادعاء والدليل، وما هي أنواع الدليل

هل يمكن نفي ما لا دليل عليه؟ إثبات الادعاء السلبي المبهم Proving a Negative

ما بين رهان باسكال ورهان أوريليوس يتم التفريق بين التاجر والإنسان.. بين الإيمان والأخلاق