ما بين البحث العلمي وسدّ الذرائع.. تاريخٌ طويل من الصراع مع النوازع!
كُتبت في: 17/07/2020
النوازع مفردها نزعة (لغةً) وهي الميل الشخصي أو التوجه النفسي لشخص ما تجاه شيء ما أو فعل ما، فهنالك مصطلحات كنزعة الخير ونزعة الشر مثًلا، وكذلك النزعة الاستعمارية أو التوسعية التي تصف الأنظمة والدول وغيرها، والنزعة الأدبية أو الفنية.. إلخ... ما يهمنا اليوم هو النزعة الشخصية للأفراد والمجتمعات والتي تستخدم للحكم على الأمور والتحكم بها وفي كثير من الأحيان تتحول هذه النوازع إلى وازع.. والوازع هو ما يمنعك عن فعل الشيء أو اتيانه...
في البحث العلمي.. لا قيمة للنوازع الشخصية في أي عملية علمية.. فالمنهجية العلمية الباحثة عن حقيقة ما لا يدخل في حسبانها ما إذا كانت هذه الحقيقة تخالف آراءك أو نوازعك أو أفكارك أو عاداتك أو معتقداتك أو مجتمعك أو تجرح مشاعرك أو تخالف قواعدك، كما لا يهمها إن كان من الجيد أو من الصحيح اكتشافها أو لا، فببساطة ما هو غير ممكن التطبيق الآن أو لا يصح تطبيقه الآن قد يكون منقذًا في المستقبل.. وحتى هذه النقطة لا تؤخذ بعين الاعتبار لتحديد هل يجب أن يتم البحث عليها أو لا، لكنها تؤخذ بعين الاعتبار أثناء البحث كأسئلة من الجيد أن يجيب عليها البحث قبل الانتقال إلى مرحلة التطبيق على أرض الواقع.. فمرحلة البحث تختلف تمامًا عن مرحلة التطبيق.. فمرحلة البحث تُعنى بكشف اللثام عن حقيقة مجهولة وإجابة سؤال دون إجابة وسد فجوة من فجوات العلم.. أما مرحلة التطبيق فهي مشوار طويل آخر مختلف تمامًا...
لنأخذ استنساخ البشر على سبيل المثال.. هل هو أخلاقي؟ هل هو صحيح؟ هل له مضار؟ كل هذه الأسئلة لا تحدد ما إذا كان يجب دراسة استنساخ البشر لكن تؤخذ بعين الاعتبار كجزء من أخلاقيات البحث سواء وكجزء من المعلومات التي يجب الوصول إليها من أجل تقييم موضوع التطبيق.. ولكن كعلم وأسس وآلية استنساخ من المهم الوصول إليها.. لماذا؟ تخيل معي أن فايروس (مشابه لكورونا مثلًا) قد أصاب البشر وسبب لهم عقم وأصبح من غير الممكن أن يستمر الجنس البشري بالحمل والولادة الطبيعيين، عندها سيكون الاستنساخ أحد الحلول.. ويجب أن يكون لدينا قاعدة علمية صلبة حول الموضوع وقتها وإلا سننقرض ببساطة.. طبعًا للبحث العلمي أخلاقيات Ethics تحدد المسموح والممنوع قي كل خطوة من خطوات البحث العلمي فضرورة دراسة الاستنساخ مثًلا لا تعني أن نستنسخ بشرًا في المخبر ونقول أن هذا في سبيل العلم لأن أخلاقيات البحث العلمي المتبعة تعد من أكثر الأخلاقيات صرامةً ويمكن أن يتم البحث على مستوى الخلايا أو حتى على مستوى الحيوانات والتي تشملها أيضًا أخلاقيات البحث العلمي ولا تتم بشكل عشوائي...
بعد هاد المثال التقيل خلونا ننتقل لمثال أخف...
تجنب دراسة الأشياء التي تخالف آراء البشر الشخصية ومعتقداتهم أيضًا آخر هم البحث العلمي.. فليس للبحث العلمي شأن إن كان البعض يعتقد أن الخمر حرام أو أكل لحم البقر حرام أو أكل مشتقات الخنزير حرام.. هذا الهجوم الغريب العجيب على كل مقال يتحدث عن فوائد النبيذ أو البيرة أو أن لحم الخنزير غير ضار.. وهذا التقوّل على العلم والانحياز التأكيدي المتبع لإثبات ضرر شيء ما مضحك.. وهو يعد نوع من أنواع سد الذرائع المتبع في أغلب الأديان والإيديولجيات وإن كان أكثر من وضحه وصاغه بطريقة واضحة وصريحة كانت الديانة اللإسلامية وهو يعتمد على أن بعض الأشياء (تسمى ذرائع) غير محرمة بذاتها ولكن فعلها قد يسبب ارتكاب الشخص لشيء محرم، لذا من الأفضل من الأول قطع الطريق عليها (سد الذريعة) كي لا يتم ارتكاب المعصية.. يعني الحديث عن الخمر والخنزير أو البحث فيهم ليس معصية ولكن قد يوضح هذا البحث عدم ضررهم مقارنة بأشياء شبيهة بهم غير محرمة وهذا قد يؤدي بالبعض الذين كانوا يمتنعون عنهم لظنهم أنه تم تحريمهم لضررهم إلى تناولهم وهذه هي المعصية لذا يجب سد الذريعة عبر تحريم البحث... الحديث عن طهارة نهر الغانج أو فائدة نوع مياه أو ادعاءات بعدم ألم بعض النسّاك أو عدم تعفن أجساد بعض القديسين بعد موتهم أيضًا ليست ممنوعة ولكن البحث فيها قد يكشف زيفها وهذا سيسبب رفضها وهذه معصية...
ومن هذا المثال أعيد وأذكر بكلامي الذي أكرره دومًا أن دعاة الإعجاز العلمي في الأديان هم من يدمر هذه الأديان.. فالكثير من محرمات الدين أو ممارساته هي محرمات أو ممارسات تشريعية لا أساس علمي أو صحي لها... لذا فعندما تحاول ربطها بالعلم فإنك ستربط فكرة فرضها أو تحريمها بالسبب العلمي، وبمجرد أن يقوم البحث العلمي بإثبات خطئك سيفكر الكثيرون بأنها ليس محرمة...
يعني إذا ربطنا فرض الصلاة بإفراغ الشحنات في الأرض أو أنها ممارسة رياضية وتبين كذب هذا الإدعاء فشو رح يكون موقفك وموقف مين صدقك؟ إذا ربطنا تحريم الخمر بمضاره الصحية ولقينا كتير شغلات تانية ضارة أكتر من الخمر مانها محرمة شو موقفك وأنو ضرر الخمر مرتبط بالجرعة كمان شو موقفك وموقف مين صدقك؟ إذا ربطنا تحريم لحم الخنزير بضررو الصحي ولقينا أنو لحم الدجاج بضر متلو وأكتر بمقاييس الدراسات اللي عم تستخدمها لتثبت كلامك فشو رح يكون موقفك وموقف مين صدقك؟ وإذا ربطنا نهر الغانج بأنو أطهر أنهار العالم وطلع أكثر الأنهار تلوثًا شو بكون موقفك وموقف مين صدقك؟
ببساطة موقفك فيك تشوفو بالناس اللي بتنبحت وفيك تسمع صريخها عم يطلع من التعليقات لما تشوف بوست عن لحم الخنزير أو الكحول بالصفحات العربية ونفس الشي لما يتم ينزل مقال بمس معتقد غربي أو شرق أقصى لأنو عم يشوفوا شي عم يزعزهم من جوا لأنو حسب فهمهم الحالي أنو العلم بيدعمهم بس الكلام العلمي اللي بالمقال أو البوست عم يثبت العكس وهاد عم يخوفهم فعم يخلي ردات فعلهم سلبية وعنيفة... بينما أنت يا مدعي الإعجاز لو التهيت بشغلك وبطلت كذب على العلم وقلت أنو نحنا بنصلي وبنصوم وبنعمد ووبننزل بنهر الغانج وما بناكل اللحم الفلاني وما بنشرب الشرب الفلاني لأنو هيك السياق التاريخي والتشريع الديني للموضوع مو لأنو وراه سبب علمي (وعفكرة كل شعيرة من هدول وكل شي مسموح ومحرم معروف سياقو التاريخي ومن مين ومن وين إجا وما ألو علاقة بالعلم أبدًا.. وما ظهر ربطو بالعلم غير من كم عقد من الزمن.. يعني كللللل اللي قبلكم كانوا يمارسوهم بدون إعجاز.. ركز معي إيمان= اقتناع وتطبيق الشي دون الحاجو لدليل، ليش عم توجع قلبك بالدليل حاليًا طيب مو ممكن ما يعجبك شو رح يقول الدليل؟)
النهفة أنو الشخص العلمي الحيادي بينظر لنوازعك الشخصية متل ما أنت بتنظر لنوازع غيرك الشخصية.. يعني كيف أنت كشخص متدين بتطلع على كلللللل معتقدات غيرك بعين المحلل والممحص والمتفحص وبعين السخرية من تحريمهم لبعض الأمور لأنو مو تحريم مقنع وبتفقد هي العين بس توصل لمعتقداتك ونوازعك، كمان الباحث الحيادي بيعمل متلك تمامًا مع فرق جددددًا طفيف أنو بينظر كمان لنوازعك بالإضافة لنوازعهم بنفس العين...
البحث العلمي ما عم يقلك كول كذا واشرب كذا ولا عم يفرضها عليك لكن أنت كمان ما بحقلك تفرض عليه أنو يبحث بصحة كذا وكذا.. لذلك برضاي عليك اترك العلم بحالو لأنو علم وسد ذرائع ما بيمشي لأن العلم روح قلبو الذرائع وبيبحث فيهم ذرذوعة ذرذوعة...
Comments
Post a Comment