الهندسة العكسية والهندسة التسلقية الانسحابية فارسا فرسان العلم الزائف والإعجاز العلمي..
كُتبت في: 25/12/2020
تُعرّف الهندسة العكسية علميًا على أنها آلية تعتمد على اكتشاف وتحليل بنية وآلية عمل نظام ما انطلاقًا من هذا النظام ومن ثم الانتقال إلى أجزاءه، يعني بكل بساطة إذا وجدنا آلة ما وأردنا أن نفهم آلية عملها نقوم بتفكيكها والتعرف على أجزائها وطريقة توصيلها وآلية عملها وهذا يحدث كثيرًا عند ضياع الأوراق التي تشرح آلية عمل جهاز ما أو لأغراض تعليمية أو لأغراض تجسسية أي في حالات عدم امتلاكك لمعلومات تشرح عمل وبنية شيء ما فتضطر إلى فهم الجهاز عبر تفكيكه أي الانطلاق من الظاهرة للوصول إلى معرفة آلية عملها...
هذا هو تعريف الهندسة العكسية Reverse Engineering في العلم، ولكن هذا المصطلح يأخذ معنىً مختلف تمامًا عندما نستخدمه في محاججة منطقية فمغالطة الهندسة العكسية هي مغالطة افتراض وجود الشيء دون دليل ثم الرجوع عكسيًا في محاولة إثباته وهي مغالطة تستخدم بكثرة في العلوم الزائفة والمعتقدات الدينية فالعلم الزائف يقوم بافتراض وجود ظاهرة ما دون دليل عليها ثم ينطلق من هذه الظاهرة المفترضة ليحلل آلياتها المفترضة محاولةً منه لإثباتها، فتجد دعاة العلم الزائف يقولون أن ما يدعونه هو علم وعندما تسألهم عن الدليل يقولون أنه لا دليل علمي عليه ولا يوجد آليات واضحة لعمله وتأثيره ولكن قد يقوم العلماء بالمستقبل بإثبات الوجود... لنتجاهل هنا مغالطة التوسل بالمجهول/بالجهل Appeal to ignorance ومغالطة عبء الإثبات ولنركز على الهندسة العكسية، فمدعو العلم الزائف هنا تجاهلوا شرط العلم بأنه كي يحق لك ادعاء وجود شيء ما يجب عليك إثبات واحد من ثلاثة: إما إثبات وجود الشيء انطلاقًا من الشيء نفسه، أو إثبات وجود أثر الشيء، أو إثبات ضرورة وجوده حتى يتحقق ما هو مثبت الوجود.. وسأقدم مثال على كلٍ منها:
- إثبات وجود الشيء انطلاقًا من الشيء نفسه: وهذه تتم على الأشياء الملموسة والمحسوسة كأن أثبت وجود القمر عبر رؤيته ولكن رؤيته كافية لإثبات وجوده فقط وضمن أطر مرجعية وظروف محددة ولكنها غير كافية لإثبات أشياء أخرى مثل تأثيراته وتركيبه وغيرها أي من غير المقبول وضع افتراضات حوله دون دليل يثبتها حتى لو كنت تراه، فالرؤية ليست كافية خاصة إذا تجاهلنا الإطار المرجعي والظروف، فالرؤية وحدها قد توحي لك أن الشمس تدور حول الأرض!
- إثبات وجود الشيء انطلاقًا من تأثيره: وعلى هذا العديد من الأمثلة، كوجود الأحياء الدقيقة انطلاقًا من تأثيراتها كالتعفن والتخمر والتحلل والأمراض وغيرها، وكذلك اكتشاف معادلات دورة حمض الليمون (حلقة كريبس Krebs Cycle) والعمل بها حتى قبل اكتشاف الدورة، والعديد من الأمثلة الأخرى.. وهنا أيضًا إثبات الأثر (أو التأثير) غير كافي لإثبات المؤثر فلتحقيق العلاقة Cause-Effect يجب أن يتم شرح جميع الخطوات التي حدثت بين المؤثر والأثر (أو التأثير) دون وجود أي فجوات غير قابلة لإكمال التسلسل الربطي بينهما.. وإلا فعندها لا يحق لك أن تدعي أي شيء أكثر من أنك أثبت التأثير ووجود الأثر لكنك تجهل المؤثر...
- إثبات وجود الشيء انطلاقًا من أن وجوده ضروري حتى يتحقق ما هو مثبت الوجود: وفي الحالة يجب أن يكون هذا الشيء محددًا والشيء المرتبط فيه محددًا أيضًا وإلا استعيض عنه بثابت أو تسمية غير محددة الصفات دون نسبه لأشياء محددة دون دليل...وهذا رأيناه علميًا في كثير من الحالات كحالة موجات الجاذبية الخاصة بأينشتاين والتي وضع نظرية ضرورة وجودها قبل مئة عام من اكتشافها لأن وجودها ضروري ليربط بين باقي الظواهر مثبتة الوجود علميًا.. وكمثال تبيسطي فالحالة كأن تقول أن هنالك فراغ بين جسمين لكن انتقلت بينهما الكهرباء مثلًا وفي هذه الحالة وبسبب ثبوت وجود الجسمين ووجود الفراغ بينهما وثبوت انتقال الكهرباء إذًا لا بد من وجود موصل ما، وكلما زادت المعطيات كلما أصبحت أكثر قدرة على توصيف وتحديد هذا الموصل.. وتعد هذه الطريقة دقيقة وخطيرة لأن إهمال أي جزء منها يوصل إلى نتائج كارثية علميًا كما حدث حين قال أرسطو عام 350 قبل الميلاد أن الطبيعة تكره الفراغ وأن الكون لا يمكن أن يكون فارغًا وأن الضوء يحتاج إلى وجود وسط ما ينتقل عبره وسما فرضيته هذه "مبدأ رعب الفراغ Horror vacu" والتي استمرت لاحقًا دون التشكيك بها مؤدية إلى اختراع ما يسمى فرضية "الأثير" Aether (classical element) والتي لم تصحح حتى نهاية القرن التاسع عشر حيث تم إثبات عدم صحتها وأنه لا حاجة لوجود وسط لا لانتقال الضوء ولا لحركة الكواكب وهنا كان الخلل الكبير في أن أرسطو ومن قبله من فلاسفة مثل بارمنديس انطلقوا من فكرتين غير مثبتتين وهما أن الطبيعة تكره الفراغ وأن الضوء لا ينتقل بالفراغ...
وهنا أيضًا نجد خلط غير المطلعين على التعاريف العلمية لمفاهيم مثل مفاهيم الثوابت الفيزيائية Physical constants والثوابت الكونية Cosmological Constants، فنجد بعض الأشخاص غير الكفؤين علميًا على اليوتيوب وغيره يتخذ من الثوابت الفيزيائية والكونية حجة على أن العلم فيه أشياء غير مثبتة بل مسلّم بها أو أن هذه الثوابت أدلة غيبية وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن هؤلاء لا يفقهون ألف باء العلوم للأسف.. فكل ظاهرة فيزيائية يمكن تمثيلها بمعادلة وهذه المعادلة مكونة من متغيرات Variables تعتمد على العوامل المؤثرة في هذه الظاهرة وهذه المتغيرات مضروبة بأرقام تحدد مدى تأثير كل عامل من هذه العوامل على هذه الظاهرة وكذلك جهة تأثيره هل هي إيجابية أو سلبية، هذه المتغيرات تسمى متغيرات لأن تغير قيمتها ممكنة وتعتمد على العامل وكذلك تغير قيمتها يسبب تغير الظاهرة وفق لهذه المعادلة، ويوجد أيضًا أرقام ضرورية لجعل هذه المعادلات ثابتة وصحيحة في كل مرة وميزة هذه الأرقام أنها ثابتة لا تتغير أي أن العلم لا يغيرها اعتباطيًا لجعل المعادلة صحيحة في كل مرة بل هي ثابتة دومًا لذا تسمى ثوابت، وهذه الثوابت هي أرقام تعبر عن عوامل تؤثر على الظاهرة لكنها لم تكتشف بعد لكن تأثيرها تم اكتشافه ووجودها ضروري لثبات التأثير ولتحقق شيء مثبت الوجود... وسأعطي مثالًا بسيطًا عليها: لنفترض أنك في كل يوم تركض 10 كم وفي كل يوم تأكل ما مقداره 2000 حريرة وتخسر ما مقداره نصف كيلو في الأسبوع.. خسارة وزنك هو الظاهرة ومعادلة خسارة الوزن هي (للتبسيط): (خسارة الوزن = عدد السعرات التي تأكلها - عدد السعرات التي تصرفها لنشاطك اليومي والمصروفة للعمليات الحيوية والمصروفة للركض).. ولكنك في كل مرة تحسبها تجد أنك تخسر دومًا 20 غرام زيادة عن المفروض وهذا الرقم ثابت، فتضع هذا الثابت ضمن المعادلة لتصبح: خسارة الوزن = عدد السعرات التي تأكلها - عدد السعرات التي تصرفها لنشاطك اليومي والمصروفة للعمليات الحيوية والمصروفة للركض – 20 غرام).. هذا الرقم يبقى ثابت حتى تكتشف يومًا ما أن الطريف الذي تركض فيه عبارة عن صعود تلة وأن هذا الصعود جعل معدل صرف الحريرات أكثر من معدل صرف الركض في الطريق المستوي بمقدار كافي لحرق 20 غرام زيادة...
بعد تعريف هذه الطرق الضرورية لإثبات ظاهرة ما نعود إلى مغالطة الهندسة العكسية في العلوم الزائفة فنجد مثلًا أنهم يفرضون وجود طاقة التشاكرا مثلًا دون إثبات هذه الطاقة أو إثبات آثارها أو حتى إثبات ضرورة وجودها لتحقق شيء ما مثبت، كذلك جميع العلوم الزائفة الأخرى...
أما أصدقاؤنا جماعة الإعجاز العلمي فهدول نهفة النهفات فهؤلاء لا يكلفون نفسهم حتى عناء الافتراض والهندسة العكسية بل بكل بساطة يتبعون أسلوب "الهندسة التسلقية الانسحابية" والتي تعتمد انتظار الظاهرة واكتشافها وإثباتها ومن ثم يتسلقون عليها بنسبها لنص حمّال أوجه مع تجاهل تفاسيره ومع الاحتفاظ بحق الانسحاب في حال إثبات عدم صحتها لاحقًا وخطوات الهندسة التسلقية الانسحابية بسيط وأي شخص يمكنه القيام بها وأنا شخصيًا أعطيت مثال تطبيقي عليها في بوست سابق تجدونه في التعليق الأول...
Comments
Post a Comment