هل الحاجة مبررٌ للوجود؟ حوارٌ حزين بين أبيقور وبائعة الكبريت.. التفكير بالتمني
كُتبت في 18/08/2020
تخيل نفسك شبحًا مارًا في الطريق في ذلك الليل والثلج يتساقط عليك، فتصادف بائعة الكبريت الصغيرة (Little match girl قصة للكاتب الدينيماركي Hans Christian Andersen) وهي تلفظ أنفاسها من الجوع والبرد ولا يمكنك المساعدة فأنت مجرد شبح.. تسألك بما بقي لها من حياة: لماذا لا يوجد طعام ودفء لكل طفلٍ جائع وبردان؟ فتجيبها: لأن الطعام والدفء يا صغيرتي لا يتوفران حسب حاجتنا بل إذا وجدنا طريقة للحصول عليهما.. تقول لك: ولكني جائعة وأشعر بالبرد.. أليس هذا كافيًا؟ فتجيبها: الحياة ليست بهذه البساطة يا صغيرتي.. فالحاجة إلى الشيء لا تعني وجوده... تقول لك وهي تبكي: ولكن هذا ليس عادلًا.. فتجيبها (بحكمة الكبار وقسوتهم): ومن قال لك أن الحياة عادلة؟
"ومن قال لك أن الحياة أو الوجود عادل"
هي أهم عبارة يجب أن نتذكرها.. فالعديد من المعتقدات تقوم على أن الحاجة للشيء هي دليلٌ على إثبات وجوده.. فالحاجة لوجود العدل والإنصاف بالنسبة لهم دليلٌ قاطعٌ على ضرورة وجوده، ولأن الأدلة تُظهر بشكلٍ قاطع أن الحياة (والتي هي نصف الوجود بالنسبة لمعتقدي فكرة الحياة ما بعد الموت) لا تتصف بالعدل حيث أن الكثير ينجو بفعلته والعديد بالرغم من ظلمهم يموتون دون حساب عادل، إذًا ولأنه من الضروري تحقق العدل (بسبب حاجتهم له) لا بد أن يكون هنالك نصف آخر للوجود يتحقق فيه هذا العدل وهو ما بعد الموت، حسب منطقهم.. فالمظلوم لا يمكنه تقبل واقع أن موت ظالمه هو النهاية وأنه لن يحدث شيء بعد هذا فهذا لا يشفي حاجته الداخلية للإنصاف والعدل والتي لا يشفيها إلا اعتقاده أنه سيتم إحياء هذا الظالم ومعاقبته، وبنفس التفكير فإن من قضى حياته معذبًا رغم عدم ارتكابه خطأ فمن غير العدل أن يكون الموت نهايةً له بل سيعاد إحياؤه من جديد ومكافأته...
تفكير رومنسي جميل لكن غير منطقي فالحاجة للشيء لا تبرر وجوده بالضرورة...
هل من الخطأ التفكير بهذه الطريقة؟ أوليس هذا التفكير مريحًا لصاحبه؟ لماذا لا ندعمه فهو يحقق السكينة لمن يعتقد به؟
في الحقيقة هذا التفكير مدمر للمجتمعات، فهو ليس مريح لصاحبه بل مثبط له ولا يحقق السكينة بل الاستكانة.. فبالرغم من أن آلية التفكير هذه تم تطويرها بدافع المظلومية (والتي هي الداعم الرئيسي للمعتقدات الغيبية) إلا أن من يعمل على دعمها وترسيخها هو الظالم قبل المظلوم، فهي تضمن للظالم أن المظلوم لن يطالب بحقه فهو يطمع بمكافأة أكثر ديمومة لاحقًا ولن يطالب بمعاقبته فهو يأمل بقدوم هذا العقاب بعد الموت فلا داعي لأن يطالب به؛ هذه الطريقة كانت ولا زالت أفضل الطرق لترويض غضب الشعوب... فإذا فكرت الشعوب بأن العقاب والثواب لن يأتي لاحقًا في عالم الغيب لكانت عملت على تطوير قوانين منطقية بشرية عقلية تضمن للمظلوم حقه وللظالم عقابه، وهذا هو الفرق الواضح بين الدول التي تتبع القانون المدني والدول التي تتبع القانون الشرعي.. والمثبط أكثر أن هذه القوانين المعتمدة على العقاب والثواب المؤجل المطبق من قبل قوة عليا مطلقة العدل هي قوانين ثابتة لكل زمان مما يمنع تطورها بتطور حاجات ومشاكل البشر...
المشكلة الثانية التي تسببها آلية التفكير هذه هي استخدامها كمدلول على وجود قوة عليا مطلقة الصفات لتحقيق العدل، وفي هذا ارتكاب لمغالطة منطقية تدعى بالاستدلال الدائري Circular Reasoning والتي فيها يكون الحجة على الشيء هو الشيء الذي نحاول إثباته.. كأن تقول: إن كلامي صحيح بدلالة هذه الرسالة الصحيحة التي كتبتها أنا والتي تقول أن كلامي صحيح، فالدليل على أن كلامي صحيح هو هذه الرسالة الصحيحة، والدليل على أن الرسالة صحيحة هو أني أنا الذي كلامي صحيح كتبتها... وهنا يتم تطبيق نفس المغالطة، فالدليل على ضرورة وجود عدل هو وجود قوة مطلقة العدل، والدليل على وجود قوة مطلقة العدل هو ضرورة وجود عدل..
قد يقول قائل ولكن هناك أدلة أخرى على وجود قوة مطلقة العدل، والجواب هو أن الكلام هنا حول من يستدل عليها بضروة وجود عدل، والذي رد عليه أبيقور Epicurus بما يسمى معضلة الشر Problem of Evil (والتي لمن يحب الإطلاع عليها هي مقسمة إلى المعضلة الكلاسيكية التي طرحها أبيقور، ومن ثم تم تطويرها من قبل الفلاسفة)..
معضلة الشر الكلاسيكية تتضمن ثلاثة فرضيات من غير الممكن اجتماعها في فرض واحد: وهي كون القوة المحققة لهذه العدالة المنشودة هي قوة مطلقة الصفات omnibenevolent وليست عشوائية ويجب أن تتصف بالآتي:
- مطلقة العلم omniscient (الشرط الأول)
- مطلقة القدرة Omnipotent (الشرط الثاني)
- مطلقة الرحمة والخير Omnibenevolence (الشرط الثالث)
توافر هذه الصفات يجب أن يعني منطقيًا عدم وجود أي ظلم في العالم لماذا؟
- لأنه إن كان هنالك ظلم وهذه القوة لا تعلم به (انتفى الشرط الأول أنها مطلقة العلم)
- لأنه إن كان هنالك ظلم وهذه القوة تعلم به وتريد تغييره ولا تستطيع فهي ليست كلية القدرة (انتفى الشرط الثاني أنها مطلقة القدرة)
- لأنه إن كان هنالك ظلم وهذه القوة تعلم به وتستطيع تغييره ولا تريد (انتفى الشرط الثالث أنها مطلقة الرحمة)
تمت محاولات الرد على هذه المعضلة من قبل العديد من الفلاسفة واللاهوتيين وأشهرهم اللاهوتي إرينيوس Irenaeus الذي حاول الإجابة على هذه المعضلة بحجة ضرورة وجود الشر لتهذيب الروح؛ وأغسطينوس Augustine of Hippo الذي اعتمد فكرة أن الشر هو غياب للخير والذي أيضًا ليس مبرر لأنه إذا كان الخير يتم بإرداة قوة ما فغيابه على حساب الشر تقصير من هذه القوة، وكذلك توما الأكويني Thomas Aquinas.. لمن يحب الإطلاع فقد تم جمع جميع الردود فيما يسمى الثيوديسا Theodicy والتي جمعها الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنيز Gottfried Leibniz والتي تعني تبرير العدالة الإلهية والتي تجمع آراء أفلوطين Plotinus وأوغسطينوس وإرينوس، والتي يمكن تلخيصها بما هو معروف بزمننا الحالي بعبارة "لحكمة لا يعلمها إلا الله" والتي هي تصريح معلن لـ"ما بعرف بس مو حابب قول ما بعرف"...
كما تمت محاولات رد على الموضوع أن هذا الشر عقوبة على الذنوب المرتكبة مما يقلل العقوبة بعد الموت لكن أصحاب هذه الردود اصطدموا بحائط عدم قدرتهم على تبرير ما يسمى بالشر المجاني (خاصة الذي يصيب أطفالًا وحديثي ولادة لم يرتكبوا ذنبًا بعد)، فمنهم من ادعى أن هؤلاء سيتم إثابتهم لاحقًا، فموت طفل رضيع يضمن له الثواب، ولكن المشكلة أن في هذا ظلم لغيره فهذا الطفل كسب الثواب الأزلي دون أن يدخل اختبارًا...
ظهرت محاولات أخرى تبرر الشر المجاني كالقول بالتناسخ Reincarnation وأن هذا الطفل قد تم حسابه على ذنب سابق وفي هذا مشكلة منطقية أخرى قائمة على الحساب دون وجود فرصة للتعلم وأيضًا على فكرة الدخول في حلقة مفرغة ستنتهي في النهاية بدخول الجميع النيرفانا لأنه الموضوع يعتمد على تكرار التناسخ حتى انتهاء الذنوب حسب بعض التوجهات البوذية مثًلا أو انتهاء الوقت لبعض الأديان الأخرى وهذا يعتمد على الحظ لأنه كما ذكرت الشخص لا يتذكر الحيوات السابقة حتى نقول أنه تعلم من الدرس وحاول تحسين سلوكياته في الحياة الجديدة...
الكثير من التبريرات اللامنطقية فقط لتجنب حقيقة الإجابة التي سيجيبها الجميع لبائعة الكبريت وهي أن "الوجود وبكل بساطة ليس عادلًا" وأن افتراس الفهد للغزالة أمر طبيعي ولن يأتي من ينصف الغزالة لاحقًا، وأن البشر لا يجب أن يستكينوا لكونهم غزلانًا مسكينة بل يعملوا على تطوير قوانين بشرية لا تنتظر ما بعد الموت لإنصافهم من الفهود وإيقافهم عند حدهم... التفكير السليم لا يخلق الفوضى كما يظن البعض بل الاستقرار لأن القوانين المدنية المتطورة حسب حاجة البشر ومشاكلهم هي أساس الاستقرار أما شعور الظلم وانتظار العدالة بعد الموت تولد الاستكانة والألم...
مقال اكثر من رائع وسعيد جدا بمروري مدونتك التي استفدت منها الكثير وكانت بمثابه مناره تنير ظلم الف
ReplyDeleteالسنين الذي سكن في راسي
سؤال هل تقبل ان يسن البشر قوانين توقف الظلم بأن تكون عادله مهم كانت قاسيه وتتنفي مع انسنيتنا بمعنى من قتل يقتل ولكم في القصص حياه.
في النهايه اتمنى انت تستمر بنشر الاستناره باللغه العربيه بالتوفيق❤️
شكرا د. حسن استفدت كثيرامن المقال
ReplyDelete