العلم يتغير ويتبدل فلماذا عليّ انتهاجه؟


كُتبت في 16/08/2020

العلم يتغير ويتبدل فلماذا عليّ انتهاجه؟
الجواب بسيط "لأنه يتغير ويتبدل عليك انتهاجه"...

إحدى أهم ما يميز العلم وما ينتهج المنهجية العلمية هو خضوعه للشك والنقد والدحض والسؤال والتساؤل والتصحيح والتطوير، مما يضمن تطوره مع تطور المجموع الفكري للإنسان والذي بدوره يجعله أفضل ما هو متوفر... (راجع الرابط الأول في التعليقات)..

وقولنا أن العلم يتطور ويتغير لا يعني بأي شكلٍ من الأشكال أنه يناقض نفسه وأن حقيقة اليوم ستكون خطأً غدًا، أو أن خطأ اليوم سيكون حقيقةً الغد بل كل شيء مثبت بطريقة علمية منهجية يتم تصنيفه ضمن درجات علمية حسب قوة الدليل الدال عليه ونوعيته فهنالك الملاحظة والفرضية والنظرية والحقيقة والقانون وكل ما سبق يقدمه العلم ضمن أُطر ناظمة، فالعلم لا يقول أنه يقدم لك الحقيقة المطلقة التي لا يمكن أن تتغير بل يقدم لك الحقيقة ضمن إطارين أساسيين هما:

- الإطار المرجعي The Frame of Reference الذي يحدد الجملة التي تكون فيها الحقيقة صحيحة (راجع الرابط الثاني في التعليقات) فمثلًا طبيعة الجاذبية تختلف حسب الإطار المرجعي المدروس وبالتالي تختلف قوانينها وما يصح في منظومة مفتوحة لا يصح في منظومة معزولة، ولكن هذا لا يعني أن القوانين في الأطر المختلفة تنفي أو تناقض بعضها البعض. 

- وإطار الآليات المتبعة لقياس هذه الظواهر، فكلما تطورت الآليات تطورت النتائج وتطورت المعطيات.. فمثلًا إذا أثبت العلم وجود الإلكترونات فهذا لا يعني أنه سيأتي يوم يثبت العلم عدم وجودها ولكن قد تختلف المعطيات حول طبيعتها هل هي موجية أو جسيمية أو مزدوجة، ولكن تحديد الطبيعة يعتبر تطوير للمعلومة وليس نقضها. 

بنفس المقياس ما يثبت العلم خطأه بالدليل المثبت لن يأتي يوم ويثبت صحته.. فمثلًا العلم أثبت أن الأرض ليست مركز الكون وأن الشمس لا تدور حول الأرض اذا لن يأتي يوم ويثبت العلم العكس. 

ما يميز العلم أيضًا أنه لا يدعي العصمة والمعصومية  impeccability على عكس المناهج التي تقدم نفسها بديلة عن العلم وتدعي عدم الحاجة لتقديم الدليل على ما تدعيه بحجة أنها مقدسة ومعصومة عن الخطأ، فالعصمة هي أسهل طريقة لنقض ما يدعيها لأن العصمة تعني أن المنهج الذي يدعيها لا تشوبه شائبة ولا يحتوي خطأ وهذه صفة مدمرة لأنه ببساطة يصبح خاضعًا لأحد أشهر أساليب البرهان المنطقية والذي يسمى طريقة نقض الفرض أو البرهان بنقض الفرض Proof by contradiction وأظن كل من درس رياضيات سمع به وهو أسلوب يتم تطبيقه على الشيء الذي يحتاج برهان خطئه إثبات العديد من الأمور لذا بدلًا عن إثبات أو نفي كل واحدة يتم اختيار سمة رئيسية يكفي عدم توفرها إلى نقض الفرض وإثبات عدم الصحة؛ على سبيل المثال يكفي لإثبات أن الشكل ليس مثلثًا أن نفرض أنه مثلث وبالتالي يجب أن يكون عدد أضلاعه ثلاثة أو مجموع زواياه ١٨٠ درجة وإثبات خطأ أي منها كافي لنقص الفرض أن الشكل مثلث بالتالي ليس مثلثًا، مثال آخر إذا ادعى أحد ما أن الآلية التي يركبها طائرة فليس عليك فحص كل جزء فيها إن كانت تحوي مروحة أو محرك أو أو، لأن الأمر يطول بل يكفي أن تفرض الآتي (إن كانت طائرة يجب أن تطير) فإذا كانت لا تطير فهي ليست طائرة. ويفيد هذا الأسلوب في نفي الموضوع في حال تم نقض الفرض ولكن لا يفيد دومًا في إثباته فإثبات أنها تطير لا يعني بالضرورة أنها طائرة فقد تكون منطاد أو صاروخ. نفس الشيء فيما يخص المناهج التي تقدم نفسها كبديل عن العلم وتدعي العصمة عن الخطأ؛ لأنه منطقيًا يكفي إيجاد خطأ واحد لإثبات عدم معصوميتها بالتالي إثبات أنها ليست منهجًا مقابلًا للعلم لأن خسارتها لميزة العصمة جعلتها مضطرة لتقديم الدليل على صحة ما تدعيه وهو ما لا تستطيع فعله. 

المضحك المبكي هنا هو التفكير السكيتسوفريني (وهذه ليست إهانة لأني سأشرح السبب) لدى من يقبل اتباع منهج حصل عليه بصدفة بيوجغرافية دون دليل (أي يؤمن به لأن الأيمان هو القبول دون دليل) ويرفض العلم بحجة أنه ممكن أن يتغير وذلك للأسباب الآتية:
- أنت ترفض ما عليه دليل حالي وتقبل ما ليس عليه دليل لمجرد أنه قيل لك. 
- أنت تقيس صحة ما تؤمن به بمقياس بالعلم دون أن تقبل العلم، أي تستخدم حكمًا لا تعترف بصحته، حيث أنك تستخدم العلم لتؤكد صحة الجزء الذي يوافق العلم من إيمانك ومع ذلك ترفض ما يثبت العلم خطأه بحجة أنه سيأتي يوم ويثبت العلم صحته. 
- أنت تلوي أفكار ما تؤمن به لكي يناسب العلم الذي لا تقبله كمرجع. 
- أنت ترفض ما هو مثبت علميًا الآن بحجة أن هنالك احتمال أن يظهر خطؤه لاحقًا، ومع ذلك تقبل حتى ما أثبت العلم خطأه بحجة أن هنالك احتمال أن تظهر صحته لاحقًا. 

في الختام العلم هو أصح منهجٍ متوفر أو سيتوفر وهو متطور يصحح نفسه، وكما أقول دومًا: ما لا يقبل الشك لا يستحق اليقين. 

Comments

أكثر المقالات قراءة:

قراءة في "معجزة خلق الجنين" ما بين السردية الإسلامية وكتاب غالين

أصل الحياة (التولد الذاتي)، ودراسة جديدة لردم جزء من هذه الفجوة

الفرق بين الحجة والادعاء والدليل، وما هي أنواع الدليل

هل يمكن نفي ما لا دليل عليه؟ إثبات الادعاء السلبي المبهم Proving a Negative

ما بين رهان باسكال ورهان أوريليوس يتم التفريق بين التاجر والإنسان.. بين الإيمان والأخلاق