تقييم الإنسان بمجموع علاماته


كُتبت في: 30/07/2020


أنا كشخص بلش دراسة بعمر الأربع سنين وخلصت بعمر التلاتين سنة وقضيت حرفيًا 76% من عمري قدم امتحانات أقول وبكل صراحة أنو ما مرّ عليي فحص أو سنة أصعب من البكالوريا (شهادة الثانوية العامة).. ضغط نفسي ما بحياتي جربت متلو ولا حابب جرب.. والسبب شو؟ السبب ليس صعوبة الأسئلة ولا صعوبة الدراسة ولا شي.. السبب ببساطة أنو المدرسة والمجتمع بحسسوك أنو حياتك متوقفة على هاد الفحص ومو بس بحسسوك بل وبطبقوا هالشي عليك.. الكل بفكر أنو أنت لازم تجمع علامات وأهم شي العلامات وبأي طريقة كانت، وهاد بينتج عنو لاحقًا أنك تسجل الفرع اللي أكتر شي ممكن تسمحلك هي العلامات تسجلو.. ليش؟ ببساطة هاد رد فعل نفسي فردي مجتمعي بسيط، رح سميه "رد فعل الحفاظ على المكسب".. كيف يعني؟


لما أنت كطالب وكأهل بكون كل همكم العلامات بدل ما يكون همكم شو رغبة الطالب يدرس أو شو المجال اللي بحبو وممكن يأبدع فيه، بتتحول هي العلامات من وسيلة للوصول إلى الهدف اللي هوي المفروض يكون الفرع اللي بيرغب فيه الطالب، إلى هدف بحد ذاتها.. يعني الطالب بيصير همو يجمع أكبر عدد علامات ممكنة بالبكالوريا بدل ما يكون همو يفوت فرع محدد بعد البكالوريا.. وهاد بيولّد الشي اللي سميتو "رد فعل الحفاظ على المكسب".. بحيث أنو الطالب بس يجمع علامات بحس أنو لازم يضل محافظ على هالمجموع كل العمر بأنو يفوت على أعلى فرع بتسمحلي هالعلامات يفوت عليه بحيث بالمستقبل تضل الناس تعرف إنو جمع علامات عالية بمجرد معرفة الفرع تبعو، يعني متل اللي حدا عطاه جائزة رصيد بالبنك وقلو فيك تشتري غرض واحد بعدين رح تخسر الرصيد وقتها تلقائيًا بيشتري أغلى غرض بلاقيه بغض النظر إذا محتاجو أو لا.. وتلقائيًا تحولت هي النظرة من نظرة فرد إلى نظرة مجتمع صار يقيّم الطالب على أساس علاماتو ومن ثم يقيّم الفرد على أساس الفرع اللي سجلو.. يعني صار الواحد مو مهم يكون ناجح ومبدع بأي فرع مهما كان بل المهم يسجل فرع عالي بغض النظر إذا ناجح فيه أو بحبو.. يعني بالنسبة للمجتمع الطبيب أو الصيدلاني أو المهندس أو المحامي (حتى لو فاشل) أهم من طالب الآداب أو الفنون الجميلة (حتى لو مبدع وخلاق وناجح)...


بتسأل أي طفل (شو بدك تطلع يا عمو؟) بكون جوابو (طبيب أو مهندس أو رائد فضاء) بتشتهي طفل يقلك (رسام أو عازف موسيقا أو عالم تاريخ أو راقص أو ممثل مسرحي).. طبعًا الطفل مرآة تعكس نفسية الأهل وتفكيرهم...

هاد ألو آثار مدمرة على المجتمع عبر تراكم العقول في فروع معينة تمت تغطية الحاجة لها منذ زمن ونقصها في فروع نحنا بأمس الحاجة ألها.. حاجتنا للفن والإبداع والموسيقا والأدب والفلسفة وعلم الاجتماع المقدم بطريقة أكاديمية لا تقل بأي شكل من الأشكال عن حاجتنا للطبيب والمهندس.. لكن نحنا بمجتمع إذا حدا جاب علامة طب لازم يفوت طب وإذا جاب علامة هندسة لازم يفوت هندسة...


كمان ألها أثرها على الفرد وأثر مدمر لأنو صار عبارة عن شخص عم تتقيم قدراتو وإبداعاتو بمجموعو العام فإن كان عالي فهو ذكي ومبدع وناجح وإذا قليل فهو فاشل وكسول ومخفق ولازم يعيدها.. طيب مو يمكن هوي طريقة تفكيرو مبدعة بمجال هي الامتحانات ما بتختبرو فيه؟ مو يمكن هو سمكة والامتحانات عم تختبر قدرتو على الطيران...


ما رح نبعد كتير.. أنا لما قدمت بكالوريا كانت علاماتي تسمحلي فوت عدة فروع عالية ولكن على دوري تم تطبيق ما يسمى "التثقيل" ودخلت فرع "الهندسة الغذائية" بناءً عليه، وهو فرع من البتروكيميا وما في غير جامعة وحدة بكل سورية وهيي البعث بحمص.. أنا دون تفكير كتير اخترت الفرع لأنو معدلي سمحلي أدخلو.. لا أنكر أبدًا أنو الأشخاص اللي تعرفت عليهم بهاد الفرع هني من أروع الأشخاص اللي مروا على تاريخي حتى الآن.. وإني استمريت بالفرع وتخرجت كخريج أول وسافرت وعملت ماستر ودكتوراه ولكن عمليًا أنا دخلت الفرع لأنو علاماتي وجهتني أساسًا ألو، أنا دخلت الفرع ما بعرف عنو غير اسمو وأنو في شب جاري اسمو علي محمود مسجل فيه مع انو وقتها كنا ولا مرة حاكيين سوا (واللي صار لاحقًا أخي وليس فقط صديقي)، بس للصراحة ما بعرف شو ممكن يكون صار لو سجلت شي فرع أدبي مثلًا.. أساسًا كتار بعد ما يتعاملوا معي لفترة بيستغربوا لما يعرفوا شو اختصاصي وبقولولي توقعنا اختصاصك شي تاني لأنو معظم الشغلات اللي بناقشها ليست قريبة أبدًا من فكرة اختصاصي حتى...


اللي بدو قولوا.. ألف مبروك لطلاب البكالوريا مهما كان المجموع اللي حصلتوا عليه لأنو كل واحد فيكم أكيد رائع بمجال ما وبتمنى من الأهل أنو هالفرحة الضخمة اللي عم تعبروا فيها لما ولادكم عم يجمعوا مجموع عالي، توقفوا فيها جنبهم وتدعموهم لما يكون مجموعهم مو عالي لأنو العلامات مو كل شي فمن الخطأ نعذب الطالب 12 سنة مشان يجيب مجموع عالي بعدين نوشمو بهاد المجموع على جبينو ويقضي عمرو حاملو سواء كان حاملو فخرًا أو خجلًا فالحالتين شعور غلط لأنو اللي جواتو أهم وأسمى من اللي مكتوب على ورقة حاملة اسمو...

Comments

أكثر المقالات قراءة:

قراءة في "معجزة خلق الجنين" ما بين السردية الإسلامية وكتاب غالين

أصل الحياة (التولد الذاتي)، ودراسة جديدة لردم جزء من هذه الفجوة

الفرق بين الحجة والادعاء والدليل، وما هي أنواع الدليل

هل يمكن نفي ما لا دليل عليه؟ إثبات الادعاء السلبي المبهم Proving a Negative

ما بين رهان باسكال ورهان أوريليوس يتم التفريق بين التاجر والإنسان.. بين الإيمان والأخلاق