أنت شخص "متشائم وشكاك".. أجمل كلمتي غزل ممكن أن أتلقاهما
كُتبت في 12/08/2020
في أغلب المقالات التي أكتبها تأتي تعليقات تنتقد موضوعين أساسيين هما التشاؤم والشك اللذان "يغزوان كلماتي" على حد تعبير البعض...
ما أريد أن أقوله أنني لا أتقصد أن أكون متشائمًا ولا متشككًا.. فقط.. بل أنتهج التفكير التشاؤمي والتشكيكي انتهاجًا وأنطلق منهما كمنطلق لأي موضوع أحاول أن أفكر فيه بموضوعية.. فأنا لا أتأمل الأفضل من شيء ولا أحاول الثقة فيه أو التيقن منه والسبب بسيط أن العلم قائم على التحليل التشاؤمي التشكيكي وبعيد عن الأمل الإيجابي أو الإيمان...
كلام قد يبدو للقارئ ثقيلًا ولكن لنفكر به قليلًا وبكل صفة على حدة... ومن الجيد أن هاتين النقطتين تحدث عنهما الكاتب الفرنسي "روما رولو" Romain Rolland والذي سأقتبس بعض كلماته...
الفكر التشاؤمي:
وهنا نتحدث عن تشاؤم الفكر لا تشاؤم الإرادة.. تشاؤم التخطيط والتحليل لا تشاؤم الفعل والعمل... حيث يقول الكاتب الفرنسي "رولو" في كتابه "ذبيحة إبراهيم Le sacrifice d'Abraham" ما نصه:
" What I especially love in Lefebvre, is this intimate alliance—which for me makes the true man—of pessimism of the intelligence, which penetrates every illusion, and optimism of the will."
والذي يعني "ما أحبه بشكل خاص في لافيفر، هو هذا التحالف الحميم - الذي يصنع بالنسبة لي الرجل الحقيقي - من تشاؤم الذكاء (الفهم) الذي يخترق كل وهم، وتفاؤل الإرادة." هذه المقولة اقتبسها لاحقًا الناشط والفيلسوف الماركسي الإيطالي "أنتونيو غرامشي" Antonio Gramsci كشعار motto وهو "Pessimism of the intellect, optimism of the will" والذي يعني "تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة"..
باختصار التشاؤم محرك مهم إن كان منهجًا للعقل والفكر ولكنه مثبط إن كان منهجًا للإرادة والعمل، والفصل بين الاثنين مهم وسهل.. فالتشاؤم عند التفكير بالشيء وتحليله هو ببساطة التفكير بكل الاحتمالات وخاصة الأسوأ منها والعمل انطلاقًا من السيناريو الأسوأ لأن ما هو كافٍ لتغطية السيناريو الأسوأ سيشمل هامشًا كبيرًا يغطي الجانب الأفضل ويزيد عليه، ولكن التخطيط على أساس السيناريو الأفضل لن يغطي بأي شكلٍ من الأشكال ما هو أسوأ منه.. ولكن عند التطبيق، فالتطبيق يحتاج إلى إرادة لتنفيذ ما خططت له والإرادة تحتاج عزمًا وتفاؤلًا في قدرتك على التطبيق لأن فكرك التشاؤمي أثناء التخطيط ساهم في تغطية أي احتمال يمكن أن يصادفك أثناء التطبيق... ومن أصول التخطيط التشاؤمي هو التفكير بالأسوأ والشك بكل ما يظهر لك وكأنه نقطة أمان.. وهنا ننتقل إلى الشك والفكر التشككي...
الفكر التشكيكي (الشكوكي):
الشك عكس الإيمان، فالإيمان هو القبول والتصديق الأعمى دون الحاجة إلى دليل فوجود الدليل يلغي ما يسمى إيمانًا ويحوله إلى فهم واقتناع وما أقصده بالدليل هنا هو الدليل العقلي العلمي المنطقي، والذي لا يتوفر في أغلب المعتقدات الإيمانية (لذا اسمها إيمانية).. العلم ليس معتقدًا إيمانيًا بل يعاكسه في منهجية القبول تمامًا فهو قائمٌ على الشك والتشكيك.. فأنت تشك في كل شيء وتنقده وتحاول نقضه وبهذا تضعه تحت الاختبار فإن كان صحيحًا كفاية ومدعومًا بأدلة كافية فهو لن يسقط أمامك نقدك ونقضك، وإن لم يكن كذلك فهذا يعني أن فيه ثغراتٍ قد تكون مدمرةً لاحقًا، وخوفك من إخضاع ما تعتقده للشك والنقد والنقض هو ببساطة عدم ثقة في ثباته وقوة دليله.. الشك هو آلية لنقد يقينك وإيمانك الحالي ونقضه في حال كان ضعيفًا للوصول إلي يقينٍ جديد والذي بدوره سيتعرض لمحاولات لنقده ونقضه في المستقبل مع تطور العلم والآليات الفكرية والتحليلية؛ وهو ما لخصه نفس الكاتب "روما رولو" بقوله "Scepticism, riddling the faith of yesterday, prepared the way for the faith of tomorrow." والذي يعني "الشك، تمزيق إيمان الأمس، مهّد الطريق لإيمان الغد"...
لنأخذ مثالًا بسيطًا من واقعنا الحالي: قصة اللقاح.ات..
إن كان اللقا.ح المعروض (أي واحدٍ كان سواء الحالي أو القادم) لا يملك دليلًا علميًا منهجيًا على فعاليته وسلامته فنحن أمام سيناريوهين:
- الأول: أن نكون متفائلين وغير مشككين ونثق دون دليل بفعاليته: وهنا إن كان فعالًا فهذا جيد ولكن تخيل معي إن بنيت آمالًا على فعاليته وقللت دفاعاتك ضد المرض بحجة وجود لقا.ح وتبين عدم فعاليته.. بل تخيل معي الكارثة إن كان ضارًا لسبب ما!
- الثاني: أن نُخضع كل ما سيطرح، بغض النظر عمّن يطرحه، للشك والتدقيق والبحث والتمحيص والتجربة، وعند تجاوزه لكل المراحل نقوم باستخدامه...
قد يقول البعض ولكننا في حالة طارئة وفي الحالات الطارئة يجب أن نحرق المراحل.. في الحقيقة هذا صحيح ويوجد منهج علمي لحرق هذه المراحل وطبي خاص بحرق مراحل إنتاج هكذا لقا.حات في هكذا حالات وتصنف ضمن أربع فئات: المسار السريع Fast Track، العلاج الذي يكون عبارة عن اختراق علمي Breakthrough Therapy، الموافقة المعجلة Accelerated Approval، المراجعة ذات الأولوية Priority Review.. بس كل وحدة ألها شروطها وما بتتم بشكل عشوائي ودون تحقيق المعايير تبعها (المصادر بالتعليقات لمن يحب التوسع بالموضوع)..
في النهاية الأمل بشيء والإيمان بصحته دون دليل وبناء خططنا على أساس الأمل ومن ثم الاصطدام بحقيقة عدم صحة ما خططنا له سيولّد حالة صدمة وجمود تسلبنا القدرة على التعامل مع ما نواجهه.. بينما الشك بالشيء وعدم التأمل به بل توقع الأسوأ سيجعلنا أكثر قدرة على تجاوز أي مشكلة تواجهنا، بل وأيضًا سيجعلنا أكثر سعادة إن كانت حساباتنا غير صحيحة وجاءت النتائج أفضل مما نتوقع.. المهم أن يكون التفكير تشاؤميًا تشككيًا، والإرادة تفاؤلية واثقة...
Comments
Post a Comment