الاحتكام للمرجعية
كُتبت في: 21/01/2021
إذا فكرنا في أهم ما يميز العلم بشكل خاص والأكاديميا والمنطق بشكل عام عن غيرهم لوجدنا حقيقة عدم احتكامهم للمرجعية الشخصية.. ففي العلم لا قيمة لأي رأيٍ شخصي مهما كان قائله إن لم يرتكز على دليل حقيقي أو منهجٍ استقرائي عملي وصحيح.. حتى رأي المختص والخبير يؤخذ به علميًا بشرط استناده على الدليل العلمي الصحيح أو المنهج الاستقرائي العملي الصحيح ويسقط رأيك كخبير بل وتسقط أنت كخبير أو اختصاصي إن طُلب منك الدليل ولم تقدمه أي أن القيمة الحقيقة ليست لك كشخص بل للدليل...
مغالطتان منطقيتان عبرتا عن هذه الحقيقة، الأولى مغالطة التوسل/الاحتكام للمرجعية/السُلطة Appeal to/Argument from Authority (argumentum ad verecundiam) وهي أنه من غير المقبول علميًا أو منطقيًا اعتماد رأي شخص ما أو جهة ما (ممثلة برأي أفراد) على أنها دليل على حجة ما مهما كانت هذه الجهة أو هؤلاء الأشخاص؛ وهنالك أيضًا مغالطة أخرى شبيهة بها ولكن أشد سوءًا وأكثر لا منطقية وهي مغالطة التوسل/الاحتكام للمرجعية/السُلطة (الزائفة أو غير ذات الصلة) Appeal to (False or Irrelevant) Authority وهي نفس السابقة ولكن فيها يُستخدم الرأي الشخصي لشخص من خارج المجال أو الاختصاص لدعم الحجة...
وفي كثير من الحالات يمكن أن تظهر المغالطتان في نفس الجملة بحسب طريقة الاستخدام؛ فعلى سبيل المثال إذا أخذنا قول آينشتاين “God does not play dice” "إن الله لا يلعب النرد" وبغض النظر أن 90% ممن يستخدمها لا يعرف معناها ولا يعرف لماذا وعن ماذا قيلت إلا أن نفس الجملة لنفس الشخص ممكن أن تكون إحدى المغالطتين السابقتين حسب سياق استخدامها:
- الحالة الأولى: إن كنت تتناقش مع أحد ما بميكانيك الكم، وقال لك أنها خاطئة وغير منطقية والدليل أن آينشتاين رفضها وقال "إن الله لا يلعب النرد" فهو هنا ارتكب مغالطة التوسل بالمرجعية لأن دليله هو رأي شخصي غير مستند على أدلة علمية كافية تدعمه ولكن هذا الرأي الشخصي يتحدث في اختصاصه أي أنه مختص وخبير (يعني حتى استخدام كلام شخص متل آينشتاين وباختصاصو يعتبر مغالطة التوسل بالمرجعية إن لم يكن مدعوم بدليل علمي)..
- الحالة الثانية: إن كنت تتناقش مع أحد ما حول ما يسمى دليل الضبط الدقيق للكون Fine Tuning لوجود الإله وقال لك "حتى آينشتاين يؤمن أن وراء هذا الكون تنظيم محدد ومضبوط مسبقًا وأنه قال إن الله لا يلعب النرد"، وبغض النظر أن هذا الشخص لم يفهم العبارة ولا عماذا قيلت ولا يعرف إيمانيات آينشتاين التي صرح عنها بنفسه، ولكن فوق هذا فهو استخدم الرأي الشخصي لشخص ما وفي مجال ليس من اختصاصه فآينشتاين ليس مختصًا في مجال الثيولوجي أساسًا ولا قدم دراسات لإثبات أو نفي الإيمانيات أي أنه مهما كان إيمانه وحتى لو كان متدينًا فهذا لا يثبت أي شيء.. فهو هنا ارتكب مغالطة التوسل بالمرجعية (الزائفة أو غير ذات الصلة)..
ولإعطاء مثال أوضح وأسهل للفهم:
تصديقك لفعالية منتج غذائي ما مثلًا لأنه قيل لك أن أغلب اختصاصي التغذية يفضلونه دون تقديم الدليل لماذا أو حتى دراسة صحيحة تثبت أنهم فعلًا يفضلونه ولسبب علمي يستطيعون شرحه بالدليل، هو مغالطة التوسل بالمرجعية؛ بينما تصديقك لفعالية منتج غذائي ما مثلًا لأنه قيل لك أن أغلب الفنانين يفضلونه أو لأن أحد المشاهير روّج له فهذه مغالطة التوسل بالمرجعية (الزائفة أو غير ذات الصلة)..
في العلم يوجد علماء وباحثون وScholars ولكن لا يوجد رجال علم ومتعلمنون.. في العلم لا يوجد "سمع وطاعة" وسَلَف صالح وإفتاء، وكلام كل شخص مهما كانت قيمته وشهرته مردودٌ عليه ما لم يستند على الدليل العلمي الصحيح أو المنهج الاستقرائي العملي الصحيح.. ومن يقول أنّ الدراسات تعتمد على ما سبقها فهو لا يفقه في البحث العلمي شيء... فذكر الدراسات السابقة ضمن المراجعة الأدبية Literature Review ليس تصديقًا لها بل تفنيدًا لها ومن حق أي شخص أن يتحقق من أي دراسة ويفنّد صحتها بل وينقضها فالعلم قائم على قابلية التخطيء Falsifiability...
أما رأي الخبراء والمختصين والذي يتم الاعتماد عليه في الحالات الطارئة لعدم وجود أدلة ومعطيات كافية فهو أيضًا ليس عشوائي بل يعتمد على خبرة الشخص وقدرته على تطبيق منهج استقرائي صحيح Inductive Reasoning عبر استخدام المعطيات المتوفرة ولحالات الضرورة فقط أو كمنشورات يصرّح أنها Expert Opinion وتكون أيضًا معتمدة على أدلة وليست رأي عشوائي أو "فَتي"؛ مثال على هذا ما حدث خلال جا.ئحة الكو.رو.نا، حيث أن ضرورة وضع پروتوكولات معينة بسرعة قصوى ولعدم وجود بيانات كافية حول هذا الڤايروس اعتمد الخبراء على بياناتهم حول سلالات شبيهة لاستقراء الإجراءات الوقائية لريثما يتم الانتهاء من الدراسات على المرض...
ختامًا أودّ أن أذكر وأنه لأهمية فكرة عدم احتكام العلم لرأي أشخاص ومرجعيات فإن الجمعية الملكية في بريطانيا (جمعية لندن الملكية لتحسين المعرفة الطبيعية) Royal Society (Royal Society of London for Improving Natural Knowledge) والتي تعتبر أقدم جمعية علمية وطنية في العالم (28 نوفمبر 1660) اختارت شعارها Motto ليكون: "Nullius in Verba" والذي يعني "take nobody's word for it" أي "لا تأخذ كلمة أحد عن شيء ما" أي لا تجعل معرفتك حول شيء ما مستمدة من رأي أحد ما..
ملحوظة: في كتير عوامل بتخليني حب هي الجمعية أحدها الكلاب اللي موجودين باللوغو...
Comments
Post a Comment