"الكليّة" صفة داخلية مدمرة لأي إيديولوجية تعتمدها كأساسٍ لها...
كُتبت في: 28/10/2020
ذكرت سابقًا مغالطة الالتقاطية أو انتقاء الكرز Cherry Picking وكيف أنها مشكلة يكاد لا يخلو منها أي نقاش سواء كان علمي أو منطقي أو حتى حياتي عادي، وذكرت كملحوظة أن هذه المغالطة تسقط عند ادعاء "الكليّة" كصفة للأشياء وكان الغرض من الموضوع هو تنبيه من يود أن يستخدمها بطريقة حفظية دون فهم، ولكن تواصل معي عدة أشخاص على الپوست السابق وعلى الخاص أنو اشرح شو قصدت بأنو الكليّة تسقط فعالية مغالطة انتقاء الكرز...
في البداية مغالطة انتقاء الكرز Cherry Picking هيي نوعًا ما سلوك نقاشي خاطئ أكثر منها مغالطة رسمية وتقوم على أن تختار أمثلة أو أدلة أو أحداث أو دراسات أو بيانات أو أي شي لا تمثل كل المجموعة وتسقطها على المجموعة كلها كمن يقوم بجني الكرز من الشجرة فيقوم بالتقاط حبات الكرز الجميلة والصحيحة والناضجة ويضعها في الصندوق ليبيعه بأفضل سعر ويترك باقي الكرزات ذات الجودة الأقل التي لا تحقق له سعر جيد أو تقلل سعر الصندوق، ومن ثم يقدم الصندوق للمشتري الذي يظن أن كل حبات الكرز على هذه الشجرة هي من نفس جودة التي في الصندوق وقد يتم هذا بشكل مقصود أو غير مقصود كأن يقوم الشخص بهذه الانتقائية عبر انتقاء الأمثلة الأسهل والتي لا تحتاج عناء في البحث كمن يقوم بجني الثمار الأقرب لمتناول يده...
أحد أشهر أنواع مغالطة انتقاء الكرز والتي يتم الخلط بينهما هو الانحياز/التحيز التوكيدي Confirmation Bias وهو الانتقاء، الذي غالبًا ما يكون مقصود، للدراسات والبيانات والأمثلة التي تخدم فكرتنا وتثبتها؛ وتجاهل، بشكل غالبًا ما يكون مقصود، جمبع الدراسات والبيانات والأمثلة التي لا تخدمها.. ونجد هذا الانحياز مطبقًا بشكل كبير عند من يحاول أن يثبت علميًا أمرًا ليس علميًا ككل بل كجزئية أو ليس علميًا بالمطلق كأن تحاول أن تثبت أن اللقاح يسبب التوحد فتتجاهل عشرات ومئات الدراسات التي تثبت عدم صحة هذا الادعاء وتقدم دراسة علمية واحدة وغير شاملة وضعيفة لكن منشورة تقول بصحة ادعائك وتقول لي "شوف هي العلم بقول هيك".. أو أن تتجاهل عشرات الأجوبة التي قدمتها نظرية التطور ومئات الدراسات التي تثبت صحتها وتأتي بسؤال لم تجب عليه النظرية بعد أو دراسة تشكك فيها (كما أقول دائمًا اللي بدو يحول الپوست عن نقاش ذي انتقاء كرزي حول التطور فأنا رح سمعلو بالتطور قبل ما جاوبو"، أو أن تحاول إثبات مدى صحة وأهمية الحمية الخضرية Veganism اعتمادًا على أمثلة انتقائية كما فعل الدكتور باسم يوسف (2) سابقًا ورددت عليه (الروابط في التعليقات كمثال عن التحيز التأكيدي) وغيرها العديد من الأمثلة...
الآن ندخل في موضوع الإيديولوجيات ذات البناء المعتمد على "الكليّة" وكمثال عليها الأديان (خاصة الابراهيمية منها فهنالك العديد من الأديان التي لا تتبنى الكليّة كصفة مطلقة للدين أو الإله).. الجميل في المنطق والنقاش المنطقي أنه لا يجامل.. فقد يعتقد البعض أن من يستخدم المنطق يستخدمه لأنه يخدمه في نقاشه ضد الأديان وهذا بسبب مخالفة الكثير من ادعاءات الأديان للمنطق التحليلي والذي نتج عنه تاريخيًا محاربة للفلاسفة وتكفيرهم ومحاربة للتفكير المنطقي (من تمنطق فقد تزندق) لأن الدين يعتمد التسليم الذي لا يتوافق مع المنطق (بس مو هاد موضوعنا) موضوعنا أنو لماذا المنطق يخدم المتدين أحيانًا (لاحظ قلت المتدين وليس الدين فهنالك فرق بين الدين كفكرة وبين حامل هذه الفكرة وهو المتدين)؟
المنطق مهم للمتدين لعدة أسباب أولها سبب بسيط وهو أنه لا يمكن لأتباع الدين إثباته علميًا فلم يبقى لإثباته إلا المنطق (Good luck with that).. كما أن المنطق لا يجامل فهو يخدم المتدينين في كثير من الأحيان وسأعطي مثال عليه وهو موضوعنا هذا حول مغالطة انتقاء الكرز، فلا يمكن لأي إنسان أن يختار بعض السلوك الإجرامي لبعض الأشخاص من دين ما او حتى بعض جماعات ويقول أن جميع أفراد هذا الدين هم مجرمون وبالمقابل لا يمكنه العكس بأن يختار الجيدين من دين ما أو حتى من دولة ما أو فكر ما ويقول أنهم جميعهم جيدون.. فلا نستطيع القول أن كل متدين هو شخص لا يستخدم العقل ونعطي مثال عن أشخاص متدينين لا يستخدمون العقل ولا أن نقول أن كل الملحدين مثلًا يستخدمون العقل ونعطي مثال عن ملحدين يستخدمون العقل فهاد انتقاء كرز وتحيز توكيدي...
ولكن كل ما سبق لا ينطبق على ما يتصف بالكليّة، والكليّة هي ادعاء كلية الشيء وإطلاقه.. فأنا إذا ادعيت أن (كل) مجموعة ما هي ذات صفة معينة وأنت أحضرت لي مثال واحد منها لا يتصف بهذه الصفة فأنت هنا أسقطت ادعائي وهذا ليس انتقاء للكرز بل أسقطته بأسلوب منطقي يسمى (البرهان بنقض الفرض) Proof by contradiction وأظن كل من درس رياضيات سمع به وهو أسلوب يتم تطبيقه على الشيء الذي يحتاج برهان خطأ كل صفات جزئياته إثبات العديد من الأمور لذا بدلًا عن إثبات أو نفي كل واحدة يتم اختيار سمة رئيسية يجب أن تتصف فيها كل هذه الجزئيات ومن دونها لا معنى لباقي الصفات وبالتالي يكفي عدم توفرها إلى نقض الفرض وإثبات عدم الصحة، وعند وجود صفة كليّة لعناصر مجموعة ما فهو فرض أن كل عناصر هذه المجموعة لديها حكمًا هذه الصفة لذا يكفي أن آتي بمثال واحد لا يمتلكها لنقضه..
لنفكر في مثالنا السابق: لا أحد ادعى أن جميع الأوروبيين متعلمين مثلًا أو جميع المتدينين مجرمين أو جميع الملحدين أغبياء على سبيل المثال بالتالي لا يوجد صفة كلية وبالتالي لا تستطيع انتقاء الكرز وإحضار أمثلة لتطبيقها على المجموعة كلها بل تحتاج إلى إحصائيات عامة وممثلة المجموعة تمثيًلا صحيحًا تعطيك نسبة توصيفية لكل مجموعة...
لكن ادعاء إيديولوجية ما أن كل تعاليمها صحيحة بالمطلق وعادلة بالمطلق ورحيمة بالمطلق ودقيقة علميًا بالمطلق كونها صادرة عن مصدر مطلق المعرفة والرحمة والعدل فهنا تم إطلاق صفة الكليّة على هذه التعاليم ولنقض هذه الصفة ليس مطلوبًا مني أن آتي بعشرات الأمثلة، بل بمثال واحد فقط... تخيل معي صديقي أن آتيك بكتاب وأقول لك كلّ ما في هذا الكتاب هو أرقام ذات لون أحمر وأنا متأكد من هذا وإذا استطعت أثبت لي العكس.. فقمت أنت وفتحت الكتاب ووجدت في إحدى صفحاته كلمة مكونة من حروف أو مثلًا وجدت أرقامًا ذات لون أسود.. هنا انتهينا لا داعي للبحث في صفحات أخرى لأن مثالك هذا كافي لدحض ادعائي القائل بأن (كلّ) ما في هذا الكتاب هو أرقام ذات لون أحمر.. وكذلك الأديان التي تدعي أن تعاليمها سماوية وبالتالي فإنها كلّها صحيحة علميًا وصحيحة أخلاقيًا وصحيحة منطقيًا فهنا كشخص يكفي أن تأتي بدليل واحد يعاكس ما سبق لنفي هذا الادعاء.. ولا تستطيع أن تتهمني بانتقاء الكرز لأنك أنت صاحب الادعاء بالكليّة ولست أنا.. وفي حال رغبت بأن نأتي بأكثر من مثال ونقارن نسبة الصحيح منها أو الأخلاقي منها أو المنطقي منها إلى غير الصحي أو الأخلاقي أو المنطقي فأنت هنا تلقائيًا أسقطت عنها صفات الكلية وبالتالي صفة الكمال وأنت تعلم ما يعني هذا..
مثال آخر على مشكلة الكليّة هو معضلة طرحتها سابقًا وهي معضلة الشر Problem of Evil وتعتمد على أن الصفات الكلية للإله تخلق مشكلة في وجوده وطبعًا ناقشتها بالتفصيل في پوست سابق لمن يود الإطلاع (3).
ما يجب قوله أن الكون والعالم والحياة هي أمور ذات طبيعة منطقية ومتغيرة ومتدرجة وقد أثبتت التجارب والتاريخ أن صفة الإطلاق بشقيها (الكلّي والشمولي) هي صفة مدمّرة وغير واقعية وإن أردتم التأكد راقبوا المشاكل التي تخلقها صفة "الكليّة" للإيديولوجيات الدينية وصفة "الشموليّة" للإيديولوجيات السياسية...
Comments
Post a Comment